يقول مصطفى صادق الرافعي : (( إنَّ اللغة مظهر من مظاهر التاريخ، والتاريخ صفة الأمة. كيفما قلّبت أمر اللغة - من حيث اتصالها بتاريخ الأمة واتصال الأمة بها - وجدتها الصفة الثابتة التي لا تزول إلاَّ بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة من تاريخها .))
اللغة العربية لغة أصيلة كاملة متكاملة ولو لم تكن كذلك لما اصطفاها الله لتكون معجزة نبيّه الخالدة ، حيث قال عنها عزَّ وجل : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (يوسف:2).
يستحضرني قول الفرنسي إرنست رينان : (( اللغة العربية بدأت فجأة على غاية الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر، فليس لها طفولة ولا شيخوخة)).
وقال حافظ إبراهيم عن لسان اللغة العربية :
أنا البحر في أحشائه الدر كامن ****** فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
لقد شُرفت هذه اللغة من فوق سبع سماوات، ويزداد تشرفيها بالتمسك بها والأخذ بها .. وليس الخجل من استخدامها .. كيف بأقوام صنعوا لهم تاريخاً من أتفه الأشياء ويتمجدون به ويفتخرون، بل ويقيمون له المتاحف والآثار، وهو لا يعدُّ في وجه التاريخ إلاَّ هامشاً، بل أقل .. فكيف بلغة حوى تاريخها أصالة وعراقة لم تحملها لغة أخرى واتصفت بمميزات لم تتصف بها لغة أخرى .. أليس الأدعى بنا أن نحفظها في عيوننا ؟!
يقول الألماني فريتاغ : ((اللغة العربية أغنى لغات العالم)) . ويقول وليم ورك: ((إن للعربية ليناً ومرونةً يمكنانها من التكيف وفقاً لمقتضيات العصر)) .
علينا أن نعي يا أخواتي ونتنبه إلى أن لغتنا واجهت ولا تزال تواجه موجهة من موجات الاحتلال اللغوي والفكري نستغني بها عن لغتنا وإرثنا وحضارتنا، وقبل كلِّ ذلك هويتنا الإسلامية التي لو ابتغينا بغيرها العزة أذلنا الله ...
وكلنا يعلم متى بدأ ذلك، أو بالأحرى مورس جهاراً نهاراً .. الاستعمار الفرنسي والبريطاني للدول العربية وتقسيمها ككعكة بينهم لم يكتفوا بالتقسيم، بل أصرّوا على استبدال الهوية واللغة والعادات والتقاليد .. لينسلخ المسلم والعربي من هويته .. حينئذ سيطمأنون أنَّه لا مجال للنهوض، لأنَّهم يعون كلَّ الوعي بأننا لو تمسكنا بديننا لسدنا العالم بأسره .. هذه السياسة ليست جديدة، وإنَّما التاريخ يعيد ويكرِّر نفسه، ولكن هل من متعظ ؟!
مورست هذه السياسة في أثناء الحروب الصليبية قبل قرون؛ حيث أنَّهم جاءوا لبلادنا بلاد الخيرات والتقدّم، وقد كانوا في بلادهم يعانون التخلف والفقر والاستعباد جاءت الجيوش الصليبية لبلاد المسلمين بنسائهم وأطفالهم وكل ما يملكون ليعيشوا ببلاد الخيرات ويتخلصوا من ذلِّ بلادهم ..
لم يكتفوا بذلك، بل عندما تمكنوا من بلادنا جاءوا بكلِّ ما تبقى من إنس في بلادهم ليغروهم بكل المغريات ليأتوا ليستبدلوا حتى السكان وينشروا حضارتهم وإرثهم في بلادنا ونصبح نحنا جزءا منهم ..
تقولين لي ما المطلوب ؟
المطلوب يا عزيزتي أن نبدأ على الأقل بالفخر بلغتنا، وأن لا نساويها بأية لغة أخرى، والإمساك بها جيّداً لكي لا نفتقدها في يوم من الأيام، ليس المقصود به عدم التعامل مع اللغات الأخرى أو عدم دراستها، فهذا أمر بديهي فلا يمكن الرقي أيضا بدون استفادة من الآخر والتعمق في فكره.
فهذا زيد بن ثابت، صحابي من الأنصار أكثر الصَّحابة حفظاً للقرآن و أعلمهم بالفرائض، تعلّم السريانية و العبرية بأمر من رسول الله، ليقرأ كل ما يرد إليه من الرسائل ...
إذا دعوتنا هنا ليس لعدم تعلم اللغات الأخرى، بل دعوتنا تكمن في أنَّ تعلم اللغات الأخرى يأتي بعد دراسة اللغة الأصلية جيدا واحترامها بالشكل الواجب، ولنقل تقديسها، ويكفينا فخراً أنَّها لغة القرآن ، وأنَّها اللغة التي تحدَّث بها خمسة أنبياء..
لم يكن الحديث عن اللغة العربية وأهميتها من أجل فقط أن نتذكر هذا الشيء، ولكن لوجود كثير من عوامل الهدم التي تلح على كل غيور أن يتحدث عن أهمية هذه اللغة، ليذكرنا جميعاً بواجبنا اتجاه هذه اللغة المقدسة التي قدست بنزول القرآن بها ..
وبدأت عوامل الهدم هذه التي هدمت كثير من أسس رسوخ هذه اللغة في قلوب العرب وقلوب وارثيها وقد لخص لنا فضيلة الشيخ القرضاوي حفظه الله هذه العوامل؛ حيث قال: إنَّ هناك أخطاراً ثلاثة على اللغة العربية :
الخطر الأول: هو خطر اللغات الأجنبية التي تزاحمها وتهددها في عقر دارها.
والخطر الثاني: هو خطر العامية المحلية التي يروج لها الكثيرون والتي أصبحت تنتشر الآن حتى في أجهزة الإعلام، والتي يطالب البعض بأن تكون لغة تعليمية.
والخطر الثالث: هو خطر اللحن والأغلاط اللغوية حتى في اللغة الفصحى التي يؤديها الخطباء والكتاب والمذيعون، وغير ذلك.
وبيَّن الدكتور على فهمي خشيم؛ رئيس مجمع اللغة العربية في ليبيا قائلاً : إنَّ المدارس الأجنبية والتي أصبحت منتشرة الآن بشكل كبير في العالم العربي أدَّت إلى ضعف المستوى التعليمي العام وانحطاطه، حيث لا تعطي هذه المدارس النشء ما يكفي من تعلم الدين واللغة العربية، ممَّا يزيد الهوَّة بينه وبين لغته الأم، وكأنه لم يعد عربياً، بالإضافة إلى عدم استخدام الجامعات اللغة العربية في مجال العلوم والطب والهندسة والصيدلة؛ حيث يعزون السبب إلى عجز اللغة عن استيعاب العلوم..!!
من أحب الله أحب رسوله ومن أحب رسوله أحب القرآن ومن أحب القرآن أحب العربية؛ لأنَّ القرآن نزل بها ومن الشرف العظيم والمجد المنيف لهذه الأمة أن كتابها عربي ونبيّها عربي،
وكشف د عائض القرني : أنَّ (اللغة العربية أكثر لغات الأرض مفردات وتراكيب، وهي لغة العلم والفن والعقل والرّوح والصوت والصورة، ولكنها اليوم في خطر أمام مد التغريب الزاحف والعاميّة الجارفة، فكثير من العرب يفخر بغير لغته حتى صار من الموضة عند كثير منهم الرطانة بالإنجليزية والتباهي بترداد مفرداتها، ومن سافر من العرب إلى الغرب عاد يرطن بعدة كلمات ليوهم الناس أنه عاد بثقافة الغرب وحضارته والعربية مهدّدة بلغات العمالة الوافدة إلى بلاد العرب، وبالخصوص الخليج العربي، فالأرض تتكلم أوردو أو بشتو ولغة التاميل، حتى صارت المربيات يلقنّ أطفالنا لغاتهم على حساب لغتنا فضعفت لغتنا، أمام هذا السيل الطاغي من اللغة الوافدة، وتهدد العربية أيضاً باللهجة العامية فأكثر الأشعار الآن باللغة المحلية وهي لغة بلدية محليّة دارجة سوقية وتعقد لشعرائها مسابقات وجوائز ثمينة، بينما شعراء العربية أكلتهم الوحدة والإهمال والتجاهل، وزاد الطين بلَّة قيام وزارات التربية والتعليم في الدول العربية بتدريس العلوم والرياضيات باللغة الإنجليزية أو الفرنسية وأصل هذه العلوم كان بالعربية في عهد الفارابي وابن سيناء وابن النفيس وجابر بن حيان، فضعف فهم الطالب لهذه العلوم ونسي لغته العربية الأم).
غير أننا نجد أنفسنا وأبناءنا نعهد إلى كتابة لغتنا بأحرف انجليزية أثناء تواصلنا عبر وسائل التواصل في الانترنت من "فيس بوك" ومواقع الدردشة، ومن أمثلة ذلك حتى تتضح الصورة أكثر مثلاً جملة: كيف الأحوال تكتب "kaifa elahwal" وبالإضافة إلى استبدال الحروف العربية التي ليس لها مقابل في الإنجليزية بأرقام كما يلي: الهمزة == 2، حرف العين = 3، حرف الحاء = 7، الخاء = 5 أو '7، الطاء = 6، والصاد == 9..
أليس هذا من وسائل هدم لغتنا في نفوسنا .. أليس حريّاً بنا أن نربّي أنفسنا وأولادنا على الاعتزاز بلغتهم والكتابة بها والحديث بها حيثما كانوا ؟!
لماذا نطلب من أنفسنا أنَّه علينا أن نتقن الانجليزية لنستطيع التواصل مع من يحل هو في دارنا وليس عليه هو أن يتعلم لغتنا ليحسن التواصل معنا ؟..
لماذا نجد الفرنسي والايطالي يرفض أن يتكلم الانجليزية داخل وخارج بلدة في المؤتمرات والمقابلات الصحفية مع أنه يتقن الانجليزية .. وفي الوقت نفسه تتشدق ألسنتنا بالانجليزية عندما يأتي من يجري معنا لقاءً أو مقابلة في ديارنا إن كان لا يتقن لغتنا ؟ ".
ثمَّ لماذا نجد دول المغرب العربي لهجتهم مخلوطة بين الفرنسي والقليل من العربي حتى إننا نحتاج إلى من يترجم لنا كلامهم رغم عربيتها ؟! ..
ولماذا نحاول أن نتكلم مع أبنائنا بغير لغتنا، بحجة أننا نريد أن نعلّمهم لغة العصر، وفي الوقت نفسه، نجدهم لا يستطيعون قراءة القرآن ولا حتى أبسط الكتب العربية .
ثمَّ تأتي لتسألَ امرأة عن مستوى ابنها في الدراسة لتجيبك بأنَّه ما شاء الله يتقن الانجليزية لتضيف انه ضعيف بالعربية لتفتخر بذلك ..!!
صدر بيان من مجلس الثورة الفرنسية يقول: (( أيها المواطنون : ليدفع كلاً منكم تسابق مقدس للقضاء على اللهجات في جميع أقطار فرنسا، لأنَّ تلك اللهجات رواسب من بقايا عهود الإقطاع والاستعباد .))
فماذا نقول نحن الذين تحمل أسنتنا لغة كتاب الله الخالد؟!
تشكو إحدى الفتيات في شأن هذا الموضوع، لتروي لنا أحد المواقف التي عاشتها، لتقول :(أحد أساتذتي لهذا الفصل، عربي مسلم، تحدَّث معنا عن مشكلة شخصية يمرّ بها، كان يشعر بالضيق بسبب أبنائه، لأنهم لا يتلقون التعليم الجيد في المدارس الخاصة هنا، كان يشكو من سوء المناهج الدراسية ومن سوء تعامل الأساتذة مع الطلاب، فاقترحت عليه إحدى الطالبات أن يغيّر المدرسة ويدخلهم في المدرسة الفلانية، فردّ عليها بأن هذه المدرسة لا تعلم اللغة الانجليزية.! أبناؤه لا يجيدون التحدث باللغة العربية، لأنَّ والدتهم من جنسية.!!
الأب عربي والأم أجنبية والأبناء يتحدثون بلغه أمهم..؟؟ يا للعجب..!!، الشيء الذي جعلني أتضايق من هذا الموقف هو أنَّ هذا الأستاذ كان غالباً ما يصحِّح لنا أخطاءنا الإملائية العربية، فكيف انه لم يعلم أبناءه اللغة العربية.!!
جعلني هذا الموقف أفكر في أبنائه إن كانوا يقرؤون القرآن... لم أعرف لماذا شعرت بالحزن على أستاذي..!
وتضيف موقفاً آخر .. هو موقف أمرّ به يومياً، كما أنني غالباً ما أعيش في هذا الموقف،أجد العديد من الطالبات يتحدّثن باللغة الانجليزية، حتى عند جلوسهن مع بعضهن البعض، في بعض الأحيان أجدهن يتحدث باللغة الانجليزية فقط، وأحياناً أجدهن يتحدّثن باللغة العربية المخلوطة بالانجليزية.
قبل أن ألوم غيري، فأنا الوم نفسي، فأنا أيضاً هكذا، أهملت لغتي العربية، أحيانا الجأ إلى الكتابة باللغة الانجليزية للتعبير عن ما بداخلي، وأحياناً أتحدَّث باللغة الانجليزية مع صديقتي...
وتضيف : بعد مروري بهذه المواقف، جلست مع نفسي أفكر، واسأل نفسي كل هذه الأسئلة..
لماذا صرنا هكذا ؟! لماذا لا نفتخر بها كما يفتخر الغرب بلغتهم؟
لماذا نتعلّم لغتهم ونتواصل معهم عن طريق لغتهم ولا يتواصلون معنا عبر لغتنا؟
عجبي من أمرنا نحن العرب ..!!
و سأتوقف عن الكتابة هنا .. ولكنّي أعاهد نفسي منذ هذه اللحظة، بأن أحاول مهما كان أن يكون قلمي عربيا، ولساني عربيا. "
وإن أردنا أن نلخص واجبنا حول هذه اللغة، فإنَّ الدكتور عائض القرني قد أوجز وأوفى في ذلك ليقول : (واليوم أصبح من الواجب على كلِّ عربي غيور أن يهبّ لحماية لغته من الفناء وينقذها من الموت، كل في حقله وتخصصه، فأهل التربية والتعليم والمفكرون والمثقفون والأدباء ورجال الإعلام هم المسؤولون عن العربية أمام الله ثم الأمة والتاريخ، وكما قال أبو منصور الثعالبي: من أحب الله أحب رسوله ومن أحب رسوله أحب القرآن ومن أحب القرآن أحب العربية؛ لأنَّ القرآن نزل بها ومن الشرف العظيم والمجد المنيف لهذه الأمة أن كتابها عربي ونبيّها عربي، ولكن المتسوّلين على أبواب الأجنبي والمتطفلين على موائد الغير يرفضون هذا الشرف ويفرّون من هذا المجد، والحل أن تتبنى الحكومات العربية ميثاق شرف حماية العربية وأن تلتزم بالعربية لغة رسمية في كل شؤونها كما فعلت كل أمم الأرض، ويُعلَّم الجيل لغته الأم، ويُوقف في وجه كلّ دعوة للتغريب والتشويه والعامية، لنحافظ على هويتنا كعرب اختارنا الله للرسالة الخاتمة والدين العظيم والملة السمحة.
واسمحوا لنا أن نضيف نحن إلى ذلك بأنَّ واجبك أنت كأم أن تبذلي كلَّ ما تستطيعين لتدربي ابنك منذ طفولته على أن يسمع العربية الصَّحيحة لا المحرّفة والمخلوطة بالكثير من الأخطاء ومن المصطلحات الدخيلة من اللغات الأخرى، وكما أنك تهتمين بأن يلتحق ابنك بأقوى المدارس التي تعلم الانجليزية عليك أن تجدي حلولا ووسائلَ تعوّضي النقص الذي يعانيه ابنك من عدم وجود إشباع من بحور لغته وكتابه ودينه، حتى لا نلوم أنفسنا أن وجدنا مجتمعات عربية بأكملها لا تتحدَّث إلاَّ بلغة الغرب، وحتى نكون سبب من أسباب إعادة العزَّة والشرف لهذه الأمَّة جمعاء .. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
مصادر للاستزادة :
- المؤامرة على الفصحى لغة القرآن - أنور الجندي
- أخطاء اللغة العربية المعاصرة عند الكتاب و الإذاعيين - د.أحمد مختار عمر
- اللغة العربية ومكانتها بين اللغات - د.فرحان السليم
- اللغة العربية التحديات والمواجهة - سالم مبارك الفلق
- الحروب الصليبة للدكتور راغب السرجاني