* و اختفى المتسولون
حتى في الدول المتقدمة، و منها بريطانيا، التي عشت فيها فترة من الزمن ترى المتسولين يملؤون الشوارع يستجدون الناس مع أن الدولة تكفل لمعظمهم سبل العيش الكريم!! و لكن في غزة و بالرغم من الفقر و الحاجة التي خلفتها الحرب لا أحد يموت من الجوع، و لا تكاد ترى في كل أنحاء غزة،شمالا و جنوبا و وسطا، من يريق كرامته من أجل درهم و لو عضه البرد و الألم و الفاقة، فمن يرفع رأسه عاليا في وجه الطغيان لن يسمح لجسده و حاجاته أن تنكس هامته بطلب المساعدة فيكاد الناظر يحسب جميع الغزيين أغنياء من التعفف.
هم متعففون، و لكن الدور على من يحفظ للكريم روحه و يعطيه دون أن يسأل فبرفعة المجاهدين تبقى رؤوسنا مرفوعة.
* غالبية لا إجماع
أكل الناس في غزة بهذا الوصف و التعالي و التجرد؟! بالطبع لا فحتى مجتمع الصحابة لم يكن خاليا من كل عيب أو نفاق أوتواطؤ، فمن أهل غزة من يجري وراء معاشه و كأنما يحصل لوطنه لا يعنيه في قليل أو كنأثير، أو كأنه كان يعيش حياة أفضل في ظل الاحتلال!!
طبيعي أن لا يحظى حال بشري بإجماع كافة أفراد المجتمع فالناس مختلفون في دوافعهم و منهم من يقدم نفسه و من وراءه الطوفان و منهم من يرى نفسه رخيصة في سبيل مجد وطنه و شعبه، و لكن الحكم على الغالب الأعم و هؤلاء في غزة كثر و هم الذين يحفظون لها هويتها عزيزة لا تُكسر و لا تُذل.
*شربت من بحر غزة
جميلة هي غزة برغم الدمار الذي لا ينفك يخلفه العدوان الهمجي، جميل هو بحرها الذي بلع العدو و بقي حانيا رائقا على أهله يفسح لهم نافذة من الجمال تجلي قلب المهموم و تؤنس المحزون و تلاعب الطفل و تسقى العطاش و تجزل العطاء للصياد و تحفظ أسرار المحبين..
شربت من ماء غزة لعل القول ينطبق بأن من يشرب من بحر بلد يعود إليها بإذن الله، و إنا لتحقيق هذا الأمر لمنتظرون..
ودعنا غزة و نحن نردد:
نحب المجاهدين و لسنا منهم لعل أن ننال بهم شفاعة
و نكره من بضاعته القعود و إن كنا سواء في البضاعة
* و ختامها سجدة في التحرير
في غزة تتعلم أن العظيم من تاريخنا صنعه المستضعفون في العدد و العدة بل إن الأقوياء و أصحاب البطش ما خلفوا لنا سوى صفحات سوداء لم نقرأ فيها سوى الاستعباد و الذلة..
أسلمتنا غزة العزة لجارتها قاهرة المعز و أسلمنا المجاهدون لخير أجناد الأرض و ورثة النسب النبوي فذهبنا لنستعيد لحظة مجد سطرها المصرييون بدماءهم ليثبتوا في كتبنا أن النصر العظيم لا يتأتى الا بتضحيات عظيمة..
ذهبنا الى التحرير لنستعيد لحظة التحرير يوم سجدت و رقصت قلوبنا على البعد أن عادت مصر لأمتها حرة كريمة، و لله دره طعم النصر لا تنفذ حلاوته مهما مر عليه الوقت بل تتذوقه حلوا معسولا كلما عادت ذكرياته.
و بالرغم من كل من يثبطون و يشككون فإن من صنعوا الثوة العظيمة قادرون بإذن الله أن يصنعوا نهضة بلادهم و يوصلوها الى بر الأمان و الإزدهار ..
في رحلة العودة قرأت في الشارع عبارة تنبأ حقا عن مصر و أهلها و تاريخها جاء فيها" ليس في مصر شيء جديد فالمصرييون صنعوا التاريخ كالعادة".
* عودة الى أرض الرباط
عودة الى أكناف بيت المقدس، الى الأردن الذي تعلمنا على أرضه أن نكون فلسطينيين، و أن فلسطين عندنا قضية وجود و وقف لا يمكن التنازل عنها، الى أرض الحشد و الرباط بانتظار وعد التحرير، الى حيث الأخوة الحقة و الدماء المؤتلفة و الأهل و النسب و الدم الواحد..
و ما بين سماء غزة و سماء عمان تمثلت قول الشاعر:
بغزة يوم حط بها الركاب تمطر عارض و دجا سحاب
وقفت موزع النظرات فيها لطرفي في مغانيها انسياب
فلئن حم الوداع فضقت ذرعا به و اشتف مهجتي الذهاب
فمن أهلي الى أهلي رجوع و عن وطني الى وطني إياب
* و ختام كالبداية
لا أحد يموت "ناقص عمر" و لكن من لم يزر غزة،بوابة فلسطين الجنوبية، و لم يعايش أهلها فقد مرت حياته دون إدراك معنى العظمة الحقيقية...
اللهم إنا نستودعك غزة أرضها و أهلها، ماءها و سماءها، برها و بحرها يا من لا تضيع عنده الودائع و لا يرد جاره و لا يذل