صفية .. يا هل ترى سمِّيت صفية لأنَّها كانت صافية القلب والقالب؟ أم سميت صفية لأنَّ أباها وعمَّها اصطفياها على أقرانها من أبناء يهود؟ صفية هي التي اصطفاها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لنفسه دون نساء اليهود بعد غزوة خيبر أم هي الزَّوجة الوحيدة التي لم يذكر قصص وحكايات عن غيرتها من زوجات الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم، بل هي الصَّافية التي كانت تتنازل بليلتها لإرضاء الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم، صفية هي الغريبة والوحيدة بينهن التي لم تكن من بني عدنان، بل كانت من ولد هارون عليه السَّلام.
إنَّ من يبحث في حياة السيّدة صفية بنت حيي بن الأخطب وما يميزها من حسن خلق وخشوع وحب لله وللرَّسول صلّى الله عليه وسلّم وصبر على إيذاء ضرائرها وجواريرها لها، بل مسامحة وإحسان لهن، إن من يتأمل في حبّ الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم لحديثها وصدقها في إظهار مشاعرها له يتيقن بأنها تستحق أن تكون زوجة نبي لأنَّها أصلاً تربَّت على أخلاق النبوَّة، فهي من سلالة هارون عليه السَّلام، فهي صفية بنت حيي بن الأخطب بن شعبة بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير بن ناحوم بن اسرائيل من سبط هارون بن عمران عليه السلام، وأمها هي برة بنت سمؤال أخت رفاعة بن سمؤال من بني قريظة أخو النظير ورغم أنَّها من بني النضير إلاَّ أنَّ أباها قتل بعد الخندق مع بني قريظة، ثمَّ انتقلت هي وقبلتها من بني النضير بعد ذلك إلى خيبر وتزوّجت بسلام بن مشكم، وكان شاعراً، وبعد أن طلقها تزوّجها كنانة بن أبي الحقيق ابن عم سلام بن مشكم الذي قتل يوم خيبر، وكانت قريبة عهد بالزواج به.
زواجها بالنبيّ -صلى الله عليه وسلم-:
ولزواجها بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم دلائل لها منذ صغرها، فقد بدأت قصتها مع الإسلام، وهي في التاسعة من عمرها في السنة الأولى من هجرة الحبيب عليه الصَّلاة والسَّلام، فقد كانت أحبّ النَّاس إلى أبيها وعمّها أبي ياسر بن الأخطب لا تأتيهما مع أحد من أقرانها إلاَّ اختاراها وأخذاها دونه، ولما جاء النبيّ صلَّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ونزل بقباء في حي عمرو بن عوف، غدا إليه حيث كان فما رجعا إلاَّ مع مغيب الشمس يمشيان فاترين يملأهما الغيظ، فأسرعت إليهما كما كانت تصنع فما نظر إليها واحد منهما ولكنها سمعت حوارا دار بينهما أدخل إلى قلبها اليقين والإيمان. قال أبو ياسر: أهو هو؟ قال أبوها : نعم، والله! قال: تعرفه بنعته وصفته؟ وكان أبوها من سادة يهود وأحبارهم وعلمائهم، فرد أبوها: نعم والله! قال: فماذا في نفسك؟ فرد أبوها: عداوته والله ما بقيت.
ثمَّ إنَّها رضي الله عنها عندما تزوجت كنانة بن أبي حقيق وكانت عروساً حلمت أنَّ القمر جاء من يثرب (وقيل نزل من السماء) واستقر في حجرها فلطمها لطمة أبقت أثراً تحت عينها على خدها قائلاً لها: تتمنين أن يتزوّجك ملك خيبر. فرقع ذلك في قلبها، وما هي إلاَّ أيام ويدخل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خيبر ويفتح حصونها، فيموت زوجها مع من مات من رجال يهود وتحمل هي إلى السَّبي مع النساء والأطفال. وجاء دحية الكلبي رضي الله عنه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم راغباً جارية من السبي، فقال له النبيّ صلَّى الله عليه وسلّم اختر ما شئت (وكان له في النساء نظرة) فاختار صفية فقال رجل: يا رسول الله أعطيت دحية الكلبي صفية بنت حيي سيدة بني النضير وبني قريظة إني أراها لا تصلح إلا لك!
وكانت رضي الله عنها لم تبلغ السابعة عشر بعد، وكان لها جمالٌ ورثته عن أسلافها، فأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يأتوا بها فلما رآها قال لدحية خذ غيرها من السبي، وأمر بلال رضي الله عنه أن يأخذها إلى حلة هي وابنة عم لها، فمر بلال رضي الله عنه بهما على قتلى يهود ومن بينهم زوجها وأبناء عمومها، فصرخت ابنة عمّها ولطمت وحثت على وجهها التراب، أمَّا هي فصبرت واحتسبت، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلّم: اغربوا هذه الشيطانة عني – أي ابنة عمها – وأمر بصفية فحيزت خلفه ووضع على صفية رضي الله عنها رداء حتى لاترى الجثث، وقال لبلال: أنزعت منك الرَّحمة حتى تمر بامرأتين على قتلى رحا لهما. فعلم المسلمون أنَّه قد اصطفاها لنفسه، وبعد ذلك خيرها الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم قائلاً: اختاري، فإن اخترت الاسلام أمسكتك لنفسي (أعتقتك وتزوجتك) وإن اخترت اليهودية، فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك، ومن تأمل في هذا القول يرى أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلّم أكرمها على الحالتين! فردت: يا رسول الله، لقد هويت الإسلام، وصدقت بك قبل أن تدعوني ، حيث صرت إلى رحلك وما لي في اليهودية أرب ، وما لي فيها والد ولا أخ ، وخيَّرتني الكفرَ والإسلامَ ، فالله ورسوله أحب إلي من العتق وأن أرجع إلى قومي، قال: فأمسكها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنفسه، وكان عتقها مهرها.
وكان لزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من صفية حكمة عظيمة، وهي بيان أحكام التعامل مع اليهود غير الحربيين للمسلمين ودعوة المسلمين إلى حسن معاملة السبايا من اليهود؛ إذ اليهود أصبحوا أصهار النبّي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يخرج صلَّى الله عليه وسلّم من خيبر حتى طهرت من حيضها، ثمَّ إنه أراد صلّى الله عليه وسلّم أن يعرس بها في خيبر، فرفضت، فوجد في نفسه فساد إلى المدينة، وأركبها وراءه على عجز ناقته حتى إذا نعست وغفت في الطريق ليلاً، ناداها : مهلا يا ابنة حيي مهلاً، حتى إذا وصلوا إلى الصهباء قريباً من المدينة، أمر أم سليم بن ملحان؛ أم أنس بن مالك رضي الله عنهما بتزيينها وتمشيطها، ولما دخل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليها قامت إليه وخرج النساء من القبة، فدار بينها وبينه صلَّى الله عليه وسلَّم أحاديث فبيَّن لها أنَّ ما فعله بأبيها وأخيها إلاَّ لأنهم قالوا كذا وفعلوا كذا، وأنَّ أباها لم يزل من أشد الأعداء حتى قتله، فردت عليه : ألا تزر وازرة وزر أخرى. ثمَّ سألها عن الخضرة التي في وجهها فأخبرته عن الحلم ولطمة زوجها ابن أبي الحقيق لهم، وسألها ما حملك عن الامتناع من النزول أولا؟ أي في القرب من خيبر. فقالت: خشيت عليك قرب يهود، فزادها ذلك عنده. ثم إنَّه صلّى الله عليه وسلّم لما أصبح رأى أبا أيوب متوشحاً سيفه يحرس قبته، فقال: مالك يا أبا أيوب؟ قال: خفت عليك هذه المرأة، وقد قتلت أباها وزوجها وقومها وهي حديثة عهد بالكفر، فقال صلّى الله عليه وسلم: اللَّهمَّ احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني، ثمَّ بسط عليه الصَّلاة والسَّلام نطعاً، أي بساطاً، ونادى في المسلمين: من كان عنده شيءٌ فليجيء به فمنهم من أتى بالتمر ومنهم من أتى بالسمن، فحاسوا حيساً، وهو تمر مخلوط بالسمن، وقال لهم صلَّى الله عليه وسلّم: كلوا من وليمة أمكم. وقيل : إنَّ مهرها كان خادمة اسمها رزينة.
وعندما أراد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم العودة للمدينة، أراد أن تركب على بعيره، فوضع ركبته لها حتى تركب، إلاَّ أنها وضعت ركبتها على ركبته فلفها بعباءته حتى ركبت!
غربة صفية
وعندما وصل النبيُّ صلَّى الله عليه وسلّم إلى المدينة أنزلها في بيت من بيوت حارثة بن النعمان، وهنا بدأت غربة السيّدة صفية رضي الله عنها بين زوجات الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم، فذهبت أربعة من زوجات الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم لرؤيتها لما سمعته عن جمالها، وهن حفصة وعائشة وجويرية بنت الحارث وزينب بنت جحش رضي الله عنهن، وهن متنقبات، فقالت عائشة لجويرية رضي الله عنهما: ما أرى هذه الجارية إلاَّ ستغلبنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردت جويرية: كلاّ، إنها من نساء قل ما يحظين عند الرِّجال، وعندما خرجت السيدة عائشة عرفها الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم فسألها عن رأيها: كيف رأيت يا شقيراء؟ فقالت: رأيت يهودية من اليهوديات، فرد عليها: لا تقولي هذا يا عائشة فإنها أسلمت وحسن إسلامها.
هي الزَّوجة الوحيدة التي لم يذكر قصص وحكايات عن غيرتها من زوجات الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم، بل هي الصَّافية التي كانت تتنازل بليلتها لإرضاء الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم،
وكانت رضي الله عنها عاقلة أرادت استمالة أهل زوجها، فأهدت فاطمة الزهراء حلقاً من ذهب، كما أهدت بعض ضرائرها ذهباً مما تملك وانضمت إلى حزب السيدة عائشة وحفصة وسودة بنت زمعة رضي الله عنهن، وكان هذا بديهي لأن عمرها لم يكن قد تجاوز السابعة عشر فهي إذا قريبة من السيدة عائشة والسيّدة حفصة رضي الله عنهن في السن، ولم يذكر في السيرة قصصا عن غيرتها من زوجات الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم، بل ذكر عن غيرة غير واحدة منهن منها حتى عائشة وحفصة، فقد دخل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليها يوما وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: إنَّ عائشة وحفصة تنالان مني وتقولان نحن خير منك نحن بنات عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ألا قلت أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمَّد صلّى الله عليه وسلّم. وفي مرَّة نادتها حفصة رضي الله عنها ببنت اليهودي فبكت، فسألها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن سبب بكائها فأخبرته فقال لها: إنَّك ابنة نبي وإن عمك نبي، وإنك تحت نبي فبم تفخر، ثم قال: اتق الله يا حفصة.
وكان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يأنس لحديثها، بل ويكثر الحديث معها تأنيسا لها على غربتها، فقد ذكر أنها كانت تزوره في اعتكافه وتسهر وتتسامر معه، ثم يعود بها إلى منزلها. كما أنَّها في إحدى أسفار النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم اصطحبها هي وأم سلمة، ثمَّ أقبل إلى هودج صفية وهو يظنه هودج أم سلمة، وكان ذلك يوم أم سلمة فجعل يتحدث مع صفية ويؤنسها، وعندما جاء إلى أم سلمة قالت: تتحدث مع ابنة يهودي في يومي وأنت رسول الله، ثم ندمت على ما قالت فكانت تستغفر لها وقال: يارسول الله استغفر لي فإنما حملني على ذلك الغيرة. ولولا أنَّها بلغت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغا ما غارت منها أمهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعاً.
في رحلة الحج إلى مكَّة المكرّمة، وعندما حجَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بنسائه، نزل رجل فساق بهن ببعض الطريق، وكان يسرع المسير فناداه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((رفقا بالقوارير))، فبرك جمل صفية وكان من أحسن الجمال، فبكت واشتد بكاؤها وصار النبيُّ صلَّى الله عليه وسلّم يمسح دمعها فازدادت بكاءً، وهو ينهاها فلَّما أكثرت زجرها وانتهرها وأمر الناس أن ينزلوا، وكان يومها، فلما ضربت خيمة النبي صلَّى الله عليه وسلّم خشيت أن يكون في نفس الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم شيء، فانطلقت إلى السيّدة عائشة قائلة: لم أكن لأبيع يومي من رسول الله بشيء أبداً، وإنّي قد وهبت يومي لك على أن ترضي رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم عنّي، قالت: نعم. فأخذت عائشة رضي الله عنها خماراً لها قد ثردته بالزعفران ورشته بالماء لتزكي ريحه، ثمَّ لبست ثيابها، وانطلقت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فرفعت طرف الخيمة، فقال لها: مالك يا عائشة، إنّ هذا ليس يومك! قالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فلما كان عند الرواح، قال لزينب بنت جحش: افقري أختك صفية جملا، وكان لها الكثير من الجمال فرفضت قائلة: أنا أفقر يهوديتك ؟! فغضب منها وهجرها ثلاثة شهور؛ ذي الحجة ومحرم وصفر.
وعند مرض النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قالت صفية رضي الله عنها: وددت والله لو أنَّ الذي بك بي، فتغامزن، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تمضمضن ففعلن، ثمّ قال: مما قلتن والله إنَّها لصادقة.
وكانت رضي الله عنها كثيرة التسبيح، فقد دخل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليها يوما وبين يديها أربعة آلاف نواة تسبح بهن فقال: يا ابنة حيي ماهذا؟ فقالت: أسبح بهن، فقال: قد سبحت منذ قمت على رأسك بأكثر من هذا، فقالت: فعلمني يا رسول الله، فقال: سبحان الله عدد ما خلف.
وكانت رضي الله عنها من الخاشعات الناصحات حتى أن نفرا اجتمعوا في حجرتها يذكرون الله ويقرؤون القرآن حتى تليت آية فيها موضع السجود فسجدوا، فقالت: هذا السجود وقراءة القرآن فأين البكاء من خشية الله؟
وكانت رضي الله عنها واصلة لرحمها حليمة على زلات خدمها، فقد روي أنَّ جاريتها ذهبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقالت: إنَّ صفية رضي الله عنها تحب أن تصل اليهود السبت، فبعث عمر رضي الله عنه يسألها، فقالت: أمَّا السبت، فلم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحما فأنا أصلها، ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: الشيطان، قالت: اذهبي فأنت حرَّة.
وكانت رضي الله عنها أشجع ما تكون أيام خلافة عثمان رضي الله عنه عندما حاصر الخوارج بيته ومنعوا عنه الطَّعام والشراب، فذهبت لترد عنه وتدافع فضربت وجه بغلتها حتى مالت، فقالت: ردوني لا يفضحني هذا، ثمَّ وضعت خشباً من منزلها إلى منزل عثمان تنقل عليه الماء والطعام .
وفي عام 50 هجرية في خلافة معاوية بن أبي سفيان، توفيت رضي الله عنها وقد أوصت بألف دينار لعائشة، وبأن يباع بيتها ويتصدق بثمنه، وعمرها 59 سنة، ودفنت بالبقيع، رضي الله عنها وأرضاها.
مراجع للاستزادة:
- السيرة النبوية لابن هشام