هي أركان عشرة طالب الإمام البنا المجاهدين من الإخوان أن يحفظوها ، وليس الحفظ في تسميعها عن ظهر غيب فقط ، وإنما الحفظ في العمل بها وفهمها ونشرها، وهذا هو سر مخاطبة المجاهدين من العاملين في الصف ، وهي في مجملها إعادة ترسيخ لمفاهيم إسلامية اندرست لعوامل مختلفة ، فأراد الإمام الاضطلاع بإحيائها عن طريق غرسها وفهمها وحملها والعمل بها والقيام بنشرها ، وبما تتطلبه هذه المراحل من تحمل لأعباء ومشقات ، وأداء لتكاليف جسام ، وتقديم لجهود مضنية .
يقول الإمام في ذلك : ( فهذه رسالتي إلى الإخوان المجاهدين من ( الإخوان المسلمون ) ، الذين آمنوا بسموِّ دعوتهم ، وقدسية فكرتهم ، وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها ، أو يموتوا في سبيلها ، إلى هؤلاء (الإخوان) فقط أوجه هذه الكلمات ، وهي ليست دروسًا تحفظ؛ ولكنها تعليمات تنفَّذ ، فإلى العمل أيها الإخوان الصادقون : ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ( التوبة: 105) ، ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ ( الأنعام : 153).
أما غير هؤلاء.. فلهم دروس ومحاضرات ، وكتب ومقالات ،ومظاهر وإداريات ، ولكلٍّ وجهةٌ هو مولِّيها فاستبقوا الخيرات ، وكلاً وعد الله الحسنى ) .
وقد كثرت شروح العلماء الأجلاء للأركان ، وستتواصل الشروح ، ربما لسر مكنون فيها، حيث إنها حصيلة أعمال وخلاصة جهاد ،فبالفعل جاءت أركاناً لتحقيق أهداف الدعوة ، في أول ميادينها : ميدان المفاهيم ، وأحسب أن الأركان العشرة تدور حول خمسة مفاهيم ، أراد الإمام أنتحملها الطليعة المجاهدة ، في أولي أعمالها لإرساء المشروع الإسلامي وتحقيق الحرية المنشودة ، ولن تتحرر أوطاننا المحتلة مدنياً أو عسكرياً إلا بقطع هذه الأشواط العشرة أو الخطوات العملية التنفيذية العشرة ، وأولها هذه المفاهيم الخمسة : ( المعرفة والتنفيذ والبذل والاستمرار والحماية ) ،والممثلة في البيعة على أركانها العشرة : ( الفهم والإخلاص والعمل والجهاد والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والأخوة والثقة ) .
فما مفهوم المعرفة عند الإمام البنا ؟
المعرفة ليست نظريات تلقن أو متون تحفظ ، وإنما هي فهم وإخلاص ، يسيران معاً إن حدث خلل في أحدهما فالتأثير فوري على الآخر ، وذلك لأن كلاً منهما يعرف بآثاره ، وينتشر بعمقه ، ويؤثر في الآخرين على حسب تمكنه في القلوب والأرواح ، ووفق هذه المفهوم تكون الدافعية للعمل والجهاد ، ولذلك أراد الإمام أن يجمع الأمة على فهم شامل وسطي متوازن فتتوحد قوتها
الفكرية، ودعاها إلى الإخلاص بعد توحدها الفكري لتتوحد قوتها النفسية الإيمانية المعنوية ، وخلاصة الوحدتين : السير في صراط مستقيم والدعوة إلى الله، فيعمل لهدف وجهاد صحيح .
وتقوم المعرفة على ركنين من الأركان العشرة بالترتيب الذي أورده الإمام :
أولاً : ركن الفهم :
وفق الأصول العشرين ، والتي أجملها في قوله : ( أن توقن بأن فكرتنا إسلامية صميمة ، وأن تفهم الإسلام كما نفهمه ، في حدود هذه الأصول العشرين الموجزة كل الإيجاز ) ، فالعبرة بجودة الفقه ، وصحة الفهم ، وسلامة الإدراك ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ) ،ويقول صلى الله عليه وسلم : ( نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً ، فحفظه حتى يبلغه غيره ، فرب حامل فقه , إلى من هو افقه منه ، ورب حامل فقه ليس بفقيه ) ، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم : " صحة الفهم ، ووحسن القصد من أعظم نعم الله على عبده ، بل ما أعطي عبد عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما ،هما ساقا الإسلام ، وقيامه عليهما ، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم ،الذين فسد قصدهم ، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم ، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم ، ومقاصدهم ، وهم أهل الصراط المستقيم في كل صلاة، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد ، يميز به بين الصحيح والفاسد ،والحق والباطل ، والهدي والضلال ، والغي والرشاد " أعلام الموقعين.
والمتأمل في الأصول العشرين يجد أن الإمام البنا جعل الأصول قسمين :
قسم يضم العشرة الأوائل بالترتيب وهي بمثابة التأسيس ، الذي تجتمع عليه الأمة ،بداية من شمول الإسلام لكل مظاهر الحياة حتى يصل بفاهمها إلى أسمي عقائد الإسلام ، وقد تفهم مصدر التلقي الصحيح فيتمسك به ، ومصادر التلقي الخاطئ فيحذرها ، مروراً بتعريفات دقيقة للمنكر وسبل محاربته ، والمصلحة ودور العاطفة والاجتهاد والتقليد والخلاف وقيمة الوقت ، ومن هنا يمتلك العقيدة السليمة الدافعة .
ثم القسم الثاني الذي يضم العشرة الثانية : وهي بمثابة التنقية، لهذه العقيدة السليمة ، مبيناً حكم البدعة والمقابر والتوسل والعرف وعمل القلب وإعمال العقل والنظر الشرعي وقضية التكفير .
ثانياً : ركن الإخلاص :
يقول عنه الإمام البنا : ( وأريد بالإخلاص : أن يقصد الأخ المسلم بقوله وعمله وجهاده كله وجه الله ، وابتغاء مرضاته وحسن مثوبته من غير نظر إلى مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر، وبذلك يكون جندي فكرة وعقيدة ، لا جندي غرض ومنفعة ، ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ( الأنعام:162 ) ، وبذلك يفهم الأخ المسلم معنى هتافه الدائم (الله غايتنا) و(الله أكبر ولله الحمد).
وكمال المعرفة كمفهوم ليس بترديد شعارات لا روح فيها ، إنما تبعث فيها الحياة،حينما تنقلب من كلمات تقال ، إلى قناعة وتبني وعمل وجهاد ، ابتغاء وجه الله ومرضاته طلباً للأجر والثواب، وعلامة النجاح في ذلك ، أن يكون من يرددها ( جندي فكرة وعقيدة ) ، لا ( جندي غرض ومنفعة ) ، وهكذا يكون الإخلاص غذاءً للفهم ، والفهم علامة على الإخلاص .
بهذه المعرفة الشاملة العميقة يكون الفرد مؤهلاً للعمل ، وحمل أعباء هذه الدعوة ، بعيداً عن السطحية أو الضعف ، وهما ما تعاني منهما بعض الحركات ، فأراد الإمام أن تتوحد الأمَّة ، على ثقافة الإسلام الجامع ، ومعرفة الدين القيم ، للانطلاق في عمل صالح وجهاد حقيقي ، لترسيخ مفهوم التنفيذ عند حملة الرِّسالة .