رأيتُها متعبة منهكة تبدو عليها علامات الإرهاق، فكرها مشغول ووجهها أصفر، وبطنها الذي يدل على اقتراب موعد الولادة تحمله أمامها بمشقة كبيرة..ترددت أن أسألها عن السبب، فأنا أعرف أنها قد حصلت مؤخراً على عمل وظيفي حكومي كانت تحلم به منذ أنهت دراستها الجامعية، وبعد أن كانت على سلم انتظار طويل جاءها الخبر كالصاعقة بأن لها أولوية الحصول على شاغر خلال 24 ساعة فقط وإلا ستذهب الفرصة إلى غيرها!!
ولكن لم أشأ أن أتركها حبيسة التفكير وحدها، فسألت:
يبدو أن الولادة باتت قريبة فهذا واضح على معالم وجهك؟
أجابتني: لا أرجوك لا تقولي هذا!!
قلت: هل هو الخوف من لحظة ميلاد ابنك الأول الذي انتظرت!!
أجابت: بل هو الخوف من أن ألده قبل أن تصل "الخادمة"؟
قلت: ماذا؟
أجابت: ما بالك فتحت فمك وكأن على رأسك الطير، أو كأن صاعقة حلت بك..بسم الله ماذا حدث؟
قلت (مستدركة): تفاجأت فقط من السبب!!إذ لم يكن ليخطر على بالي؟؟
أجابت: كيف لم يخطر على بالك وأنت تعلمين أنني موظفة، وحسب القانون لا يحق لي إلا 40 يوماً على أحسن تقدير لإجازة الأمومة، سأضطر بعدها إلى ترك طفلي والعودة إلى العمل، فمع من سأتركه؟؟
قلت لها: ولماذا لا تتركين العمل؟ وأنا أعرف بأن وضعكم يسمح لك بذلك!!
أجابت: أترك عمل حكومي!!إن صديقاتي إلى اليوم يتساءلن كيف حصلت على هذه الفرصة وأنت اليوم تطلبين مني أن أتركها!!
قلت: لم أقل لك اتركيها!! بل قلت إن هذه المرحلة من حياتك تستحق منك التفرغ لها..تذكري أنني كنت أول من هنأك بالحصول على هذه الوظيفة، ولكنك الآن ستصبحين "أماً" وتلك وظيفة أخرى تستحق أن تتفرغي لها لفترة من الزمن..
أجابت: 40 يوماً ثم أعود..
قلت: نعم، وترجعين من دوامك منهكة متعبة، تلقين نظرة على طفلك ثم تتركينه مع الخادمة لأنك بحاجة إلى الراحة، ثم تقومين من النوم لتباشري حياتك فتتركينه مع الخادمة لتذهبي إلى السوق..وتتركينه وتتركينه..
أجابت: أنا اخترت الخادمة بعناية، لقد دفعت مبلغاً إضافياً لتكون متعلمة وذات خبرة في التربية..
قلت: لو مهما كانت لن تكون أمه!! هل ستتنازلين لها عن "حنانك" وحبك وعطفك لتمنحهم له في حال غيابك..اهتمام الأمهات بأولادهن يساعد على رفع درجة ذكائهم وزيادة مهارة القراءة والذاكرة لديهم، ووجد العلماء أنَّ حنان الأم وملامستها الدائمة لطفلها، وضمّه إلى صدرها ومداعبته وتدليك جسمه بحنان يفرز نمو الطفل وذكاءه وحيويته،
أجابت: لا تعقديها إلى هذه الدرجة!!كل البيوت الآن فيها خادمات، وأغلب الأمهات موظفات..
قلت: صحيح، وأغلب الأولاد الصغار عندهم مشاكل، العنف والضرب والانطواء و.....
أجابت: أرجوك
قلت: لن أقول لك أكثر من ذلك..القرار لك..ولكني فقط أذكرك بأنك أنت نفسك تقولين بأنك لو لففت العالم لن تجدي صدراً أحنّ عليك من صدر أمك، وأعرف تماماً أن أمك لم تتنازل عن حنانها وحبها لتمنحه لخادمة تقدمهما لك في زجاجة حليب اصطناعي لتعمل هي 8 ساعات في دوام حكومي وتصرف راتبها على أتعاب الخادمة والحليب الاصطناعي وأدوية لعلاج الأمراض!!
*** *** ***
إنَّ من نعم الله على الإنسان أن حباه بأم حنون تحتضنه من قبل أن يولد، وتسهر عليه من قبل أن تراه عيناها وهو مايزال جنينا في أحشائها، فقد أودع الرَّحمن الرّحيم في قلب الأم عاطفة ليس لها مثيل تفيض بها على أبنائها دون مقابل.
وما كان هذا العطاء الرَّباني الذي أودعه الله قلب الأم إلاّ لما له من أثر عظيم على صحة أبنائها النفسية والجسدية، فقد أظهرت دراسات متخصصة في هذا المجال أنَّ اهتمام الأمهات بأولادهن يساعد على رفع درجة ذكائهم وزيادة مهارة القراءة والذاكرة لديهم، ووجد العلماء أنَّ حنان الأم وملامستها الدائمة لطفلها، وضمّه إلى صدرها ومداعبته وتدليك جسمه بحنان يفرز نمو الطفل وذكاءه وحيويته، حيث إنَّ ملامسة الطفل ومداعبته تحفزان جهازه العصبي المركزي، وتساعدان على إفراز هرمونات معينة شبيهة بمادة الأنسولين والتي من شأنها زيادة نموه الجسدي والعقلي.
وقد أظهرت دراسة لرصد النمو العقلي لدى الأطفال أنَّ طلاب المدارس الذين يلقون التعاطف من أمهاتهم في المنزل ينعمون بنمو دماغي أفضل من نظرائهم المحرمون من ذلك العطف، وقد لوحظ أنَّ الضرر الذي يصيب دماغ الطفل بسبب قلة الحنان والتعاطف يصعب تعويضه في السنوات اللاحقة حتى مع تبدل سلوك الأهل.
وملاحظ أنَّه ازداد في الآونة الأخيرة خروج بعض الأمهات إلى العمل، ممَّا يترتب عليه ترك الأطفال بمفردهم مع الخادمات، وهذه تعدُّ الطامة الكبرى في حق هذا الطفل ، حيث يصبح مصدر تلقيه الأوّل في هذه الحياة هو الخادمة التي لا يعرف من أيّ بيئة جاءت وما هي ثقافتها ، وأحياناً كثيرة تكون ديانتها غير مسلمة، ممَّا يكون لذلك أكبر الأثر في إنصراف الطفل عن أمه وتعلقه بالخادمة ممَّا يسبب له إضرابات نفسية تظهر آثارها جلية على سلوكه في كافة مراحل عمره، لذا كان لزاماً على الأمهات إدراك عظم المسؤولية الملقاة على أكتافهن في إعداد وإنشاء جيل نسأل عنه أمام الله ونباهي به الأمم وليس جيلاً ممزقاً، مضطرباً نفسياً وسلوكياً وعقلياً، لأنَّه نتاج لتربية الخادمة وانصراف الأم عنه.
إنها دعوة لك عزيزتي الأم العاملة، للتفكير مجدداً في أولوياتك، والتفكير في حاجتك الفعلية للعمل الوظيفي في مقابل حاجة أولادك لوجودك بينهم ومعهم..إننا نقول لك بأن لكل مرحلة تبعاتها، وعندما يكون أطفالك صغاراً قبل مغادرة البيت إلى المدرسة فإنهم يكونون بأمسّ الحاجة إلى وجودك بينهم وعطفك وحنانك وتوجيهاتك فلا تبخلي عليهم بذلك..
رحلة "أمومة" موفقة لكل أم لها في البيت صغار ينتظرون عودتها من العمل بشوق!!
للاستزادة:
كتاب تأسيس عقلية الطفل – د.عبد الكريم بكار
كتاب نحو تربية إسلامية راشدة من الطفولة حتى البلوغ – محمد شاكر الشريف
تربية الأبناء – عبد الله ناصح علوان
تربية الطفل المسلم وأسباب عقوق الأبناء – عبد العظيم بدوي