يعتقد بعض الدعاة أنَّ أبناءهم سيرزقون حتماً الاستقامة بـ "الوراثة"، دون بذل جهود تربوية متقنة محبّبة لهم وتتسم بالديمومة، فتجدهم منشغلين بصورة كبيرة عن أبنائهم، ليفاجؤوا في النهاية، بأبناء لا يمتون لـ"الالتزام" المطلوب بأدنى صلة.
كما أنَّ البعض يوكل أمر أبنائه للمسجد أو المدرسة، أو الأم أو الصّحبة الصّالحة أو مربياً خاصاً، فيعتمد عليها اعتماداً كليّاً، من غير متابعة دقيقة من طرف خفي، وقد يحصل في واحد من هذه الجهات عجزاً وتقصيراً، وينمو هذا الخلل في شخصية الابن، وتعجز كل المحاضن عن العلاج، في غفلة شبه تامة من الأب.
ومن جانب آخر، تجد بعض الدعاة يطغى تأثيرهم على شخصية أبنائهم؛ حيث لا يجد الابن لنفسه وجودًا بجانب أبيه، وهو الأمر الناتج عن يأس الابن من إمكانية مواجهة الأب أو حتى التفاهم معه؛ فيؤثِر السلامة بالانقياد.. ليكون الحق والواجب هو رأي الأب وتصرفاته.. وهي حالة لها أخطارها التربوية.
أبي...سبب تمردي
نور علي (23 سنة) ابنة لأحد الدعاة في قطاع غزة، تقول: "إحدى مشكلاتنا كأبناء للملتزمين أنَّ أهالينا لا يتركون لنا فرصةً للاختيار؛ فهم يرون أنَّ المسألة غير قابلة للجدل والنقاش، فحلقة المسجد لا بد من الذهاب إليها في كلّ الأحوال، وليس من حقي أن أُغيِّر الحلقة التي أكون فيها إذا كان بها ما يضايقني، وأغلب القرارات الأسرية تصدر في صورة أوامر لا مجال لمناقشتها، فتكون النتيجةُ في النهاية أن يتمرَّد الأبناء على هذا الأسلوب المستفز".
أمَّا عمر عبد الفتاح (21 سنة) فيقول: "لماذا لا أجرِّب كلّ شيء بحيث أصل في النهاية لقراراتي وقناعاتي الشخصية، وما أريد أن أفعله وما لا أريد، ولماذا يرسم لي والدي خطواتي مسبقًا ويريد مني أن أمشي على هذه الخطوات؟ إنني إنسان كامل الأهلية ومسؤول عن تصرفاتي، وسأحاسَب عليها أمام الله وليس أبي، فليتركني حتى أختار بنفسي".
أسباب التمرد
الدكتور "يونس الأسطل"، رئيس دائرة الإفتاء في رابطة علماء فلسطين قال لــ"بصائر" :"إنَّ عدداً من الدعاة سواء كانوا رجالاً أو نساءً لوحظ انشغالهم بشكل كبير في الدعوة الأمر الذي ترك أثرا على تربية الأبناء ونشأتهم على الأخلاق والعلم، فتجد أبنائهم لا يستطيعون حمل الراية من بعدهم".
وأضاف أنَّ أسباب تمرّد أبناء الملتزمين والدعاة يعود إلى كثرة الأعباء الملقاة على عاتق آبائهم لا سيّما الدعاة المبرزين منهم بحيث لا يبقى للبيت إلاّ نوافل الوقت، مشيراً إلى وجود أيدي خفية حريصة على أن تظهر ضعفاً في التزام بيوت الدعاة المؤثرين لتزيد الناس في الاستجابة لهم والاقتناع بفكرهم تحت حجّة أنّهم كأنّما يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم.
واستدرك:" كما أنَّ هناك كثيراً من وسائل الفساد التي تغزو بيوتنا من مثل الفضائيات وشبكة الانترنت والجوالات المتطوّرة وغيرها، منوّهاً إلى أنَّ الأولاد عموماً يحتاجون إلى رقابة على مدار الساعة، الأمر الذي لا يتوفر عند بعض الدعاة من كلا الجنسين؛ لأنَّهم مشغولون بهموم خارجية، ويكثر غيابهم عن بيوتهم وانشغالهم عن أبنائهم ممَّا يوفر فرصة للانحراف على حين غفلة من أهلها، على حد وصفه".
وأوضح أنَّ الأولاد يتأثرون بأبناء جيلهم، ففي المدارس والأحياء يكثر المنحرفين من الأشبال والشباب الذين يجدون فرصة في انشغال الدُّعاة عن أبنائهم ليؤثروا فيهم فساداً وانحرافاً، حسب الأسطل.
من يتحمَّل مسؤولية تمردهم؟
وشدَّد على أنَّ البيت هو الذي يتحمّل المسؤولية الأولى عن شذوذ الأبناء عن الأخلاق الإسلامية والأعراف الطيبة، مبيّناً أنَّ المدرسة أيضاً لها دور في تهذيب أخلاق الطلبة من خلال مراقبة سلوكهم، وإيجاد برامج تعزيزية للمناهج الدراسية بهدف تقويم الأخلاق والسلوك، فضلاً عن ضرورة أن يكون الأساتذة موضع قدوة في سلوكهم.
وأضاف أنَّ المساجد لها دورها ومسؤوليتها في رعاية الأبناء من خلال أسرة المسجد وإمامه والقائمين على النشاط فيه، منوّهاً إلى أنَّه ينبغي عليهم متابعة تفلت الشباب لا سيّما أبناء الدُّعاة بحكم انشغال آبائهم عنهم.
وذكر الأسطل أنَّ المسؤولية الرَّابعة تقع على الإعلام وذلك من خلال البرامج التي تغرس في الناشئة إيماناً عميقاً ووعياً كبيراً بمخاطر الانحراف في الدنيا والآخرة، بالإضافة إلى ضرورة أن يعد الشباب أنفسهم لخدمة أمتهم وتحرير العالم من الظلمات إلى النور.
وأكّد الأسطل أنَّ المسؤولية جماعية بحكم أنَّ الأمَّة مكلفة بمهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في درجاته الثلاث، لاسيّما الإنكار بالقلب والقول والفعل، مشيراً إلى أنَّ الإنكار بالقلب يعدُّ من أضعف الإيمان.
وشدَّد على أنَّه يتوجّب على أهل الخير إذا رأوا في أبناء الدُّعاة شيئاً من الانحراف أن يبلغوا آبائهم ليتولوا تصحيح سلوكهم ولو بتخصيص بعض المربين لمتابعتهم بصورة يومية، على حدِّ تعبيره.
مظاهر التمرد
وقال الأسطل :"إنَّ هناك بعض السلوكيات التي تظهر على أبناء المتدينين المشغولين عن أبنائهم تتمثل في التفلت من صلاة الجماعة في المسجد، وصدور الألفاظ البذيئة على ألسنتهم، وتعاطي الدخان عند بعضهم".
وأردف قائلاً:" كما يقوم البعض بتقليد الموضات الأجنبية سواء في اللباس أو قصات الشعر وغير ذلك من المظاهر المنبوذة إسلامياً أو عرفياً، بالإضافة إلى تدني المستويات العلمية لدى بعضهم من خلال نتائج الامتحانات والشهادات". " نَّ الإفراط والتفريط في مراقبة الولد من جهة الوالدين من ناحية سلوكه وطريقة تفكيره وعواطفه وأصدقائه، وإجباره على مصاحبة شخص معيّن هو لا يريده وضربه بطريقة تخلو من الوسطية تدفعه للاعوجاج عن الطريق الإسلامي الصَّحيح"
التوصيات والعلاج
وذكر الأسطل أنَّه مهما كانت شواغل الأبوين يجب أن يوفروا قدراً كافياً لمتابعة أبنائهم في دينهم ودراستهم وسلوكهم، مع الحرص على أن تكون صحبة أبنائهم طيّبة وموضع قدوة ليؤثروا فيهم استقامة وصلاحاً.
وتابع "كما ينبغي تسليط بعض الدّعاة في المنطقة من الواعظين أو الشباب الواعي الملتزم لتوثيق العلاقة مع الشباب والحرص على متابعتهم إعانة لآبائهم، مبيّناً أنه لا مانع أن يكون ذلك بشيء من الأجرة حتى تكون المتابعة جادة ومستمرة في مقابل المكافئة التي ينتظرها أولئك في نهاية الشهر.
واستكمل حديثه بالقول : " يجب على الآباء تشفير كل المحطات الفضائية الماجنة والمواقع الإباحية على شبكات الانترنت حتى يطمئن الآباء على أبنائهم في غيابهم، وملأ فراغهم بكلِّ ما هو مفيد كالرياضة مثلاً، أو اكتساب مهارات معينة كالحرف المهنية أو التخصصات العلمية، أو بإجادة بعض اللغات".
أسباب فرعية
وتأكيداً لقول الدكتور الأسطل، يشير الدّاعية والمحاضر في كلية الدعوة الإسلامية في قطاع غزة الدكتور بسام العف إلى أنَّ هناك مجموعة من الأسباب تدفع أبناء الملتزمين للتمرّد؛ أولها تأخر تربية الوالدين لأبنائهم فتكون شخصية الطفل قد تكوَّنت، وربما يكون طلبهم بالتزام أبنائهم جاء جملة واحدة بعيداً عن التدرج الأمر الذي يدفعهم للتمرّد وعدم الخضوع، حسب العف.
وتابع قائلاً:" إنَّ الإفراط والتفريط في مراقبة الولد من جهة الوالدين من ناحية سلوكه وطريقة تفكيره وعواطفه وأصدقائه، وإجباره على مصاحبة شخص معيّن هو لا يريده وضربه بطريقة تخلو من الوسطية تدفعه للاعوجاج عن الطريق الإسلامي الصَّحيح".
واعتبر العف عدم مصاحبة الآباء لأولادهم، والتعامل معهم بشدة وقسوة، يولد دافع الكذب لديهم في بعض الأمور، ممَّا يترتب عليه أن يقوم الأولاد بعمل أشياء سيئة، ويتكتمون عليها لوجود فجوة بينهم وبين آبائهم.
وحول المؤثرات الخارجية لتمرد الأبناء، قال العف :"إنَّ بعض الأقارب كالأخوال والجد وغيرهم، يتركون آثاراً سلبية على الأبناء، فالجد مثلا يوشي بالولد على أبيه، ويحثه على سلوك خاطئ، فيجد الابن أنَّ هناك من يسانده ويقف بجانبه ضد والديه".
على المجتمع
وأشار العف إلى أنَّ انحراف أبناء الدعاة يؤثر سلباً على آبائهم وبيوتهم بما فيه من إلحاق المعرة بأبويهم الذين ينظر الناس إليهم على أنَّهم قدوة وأسوة.
وبالنسبة لأثر تمردهم على المجتمع قال :"إنَّ ذلك يعطي صورة غير مرضية لأبناء الدعاة ممَّا يجعل الآخرين غير متحرّجين من انحراف بعض أبنائهم، لأنَّهم إنما يحاكون أبناء الأئمة والدعاة.
وذكر أنَّ ذلك له مخاطر جمَّة على المدى البعيد؛ حيث إنَّهم قد يتورطون في وقت لاحق في شبكات ترويج المخدرات، أو التجسس أو قد يرتكبون بعض الموبقات والفواحش، فيسهمون في إفساد المجتمع وكشف عوراته، بل وكشف أسرار بيوتهم، حسب العف.
وبين أنَّ الصهاينة حريصون على أن يغرسوا عميلاً أو أكثر في الدائرة الضيّقة لكلّ داعٍ أو داعية، "لأنَّ انحراف الأبناء يوفّر فرصة ممتازة لأولئك المجرمين".