ما حقيقة ما يجري في المنطقة العربية؟ وماذا يخطط لها؟ وما الذي تغير بعد سنة من بداية الربيع العربي؟ وما الذي جنته الشعوب في مقابل تضحياتها الجسام؟ وما مصير الثورة والمنطقة؟
لا شك أننا بصدد تحولات وإستراتيجيات أكبر بكثير من اللاعبين الذين أقحموا في اللعبة، وأشد تعقيدا مما يظنون. وما يبدو على السطح لا يكاد يمت بصلة للحقيقة التي لا تكشفها الأخبار والتصريحات والمؤتمرات بقدر ما تكشفها السوابق والسنن وقوانين اللعبة ومصالح الأطراف الفاعلة وأولوياتها الحاكمة.
ولكن العديد من الساسة العرب لا يطلعون حتى على المعطيات والوثائق المنشورة، ولذلك تأتي التقديرات والحسابات خاطئة وتبنى المواقف والسياسات على أماني وأوهام، وتتكرر الأخطاء، وتضيع الفرص، ويطغى على العمل السياسي التهريج.
ولا تزال المقاربات المعتمدة في المنطقة يغلب عليها الإنكار والتمني والارتجال والتسطيح والتنظير والتبرير والترقيع، كما لا تزال الأحزاب والنخب السياسية -إلا ما رحم الله- وفية لعجزها وتخبطها ونرجسيتها وترفعها على النصيحة والتعلّم وتنصّلها من المسؤولية وهوسها بالحكم، حتى أن المعادلة السياسية اختزلت في "شعب عظيم ومعارضة مهلهلة ونظام فاجر". ولا يزال هذا الشعب العظيم ضحية صراع محموم على السلطة بين النخب والأحزاب الحاكمة والمعارضة تمخض عن مأزق مستحكم لم تجن منه الشعوب سوى الويلات.
لا شك أن الثورات العربية كانت رائعة وأنها أنجزت الكثير، كسرت الخوف والقيد والجمود، وأنهت الحكم المطلق، وأيقظت الشعب وأحيت فيه الأمل والروح الوطنية، فاستعاد موقعه الطبيعي في المعادلة السياسية.
ولكن بعد أن أكملت الثورة سنتها الأولى وعرفت مسارات ومآلات متباينة، نحن بحاجة إلى تقييم واقعي وتقدير عقلاني للموقف متخلصين من آثار الصدمة والنشوة ومتحررين من الصور الحالمة والقاتمة التي يرسمها المستفيدون والمتضررون من الثورة، ومن الأعذار والمبررات الواهية، خاصة أن المشهد مقلق وكذلك المؤشرات والسوابق.
فالنظام في مصر واليمن لم يسقط ولم يتغير كثيرا، والإنجازات كانت هزيلة بالمقارنة مع التضحيات الجسام والزخم الثوري الباهر. وفي ليبيا اتخذت الثورة منحى العسكرة والتدويل وكان ثمن اقتلاع القذافي ونظامه دمارا شاملا، ودخلت ليبيا في حلقة مفرغة بين ضعف القيادة وتمسك كتائب الثوار بالسلاح وتعزز النزعات القبلية والجهوية.
تونس مهد الربيع العربي أمرها محير. فشروط النجاح متوفرة، واستحقاقات المرحلة الانتقالية من انتخابات وتسليم للسلطة تمت بسلاسة، ولكن البلاد والأوضاع تراوح مكانها، والحكومة الائتلافية المنتخبة على أساس وعود سخية بالإنجازات والإصلاحات تصارع من أجل تصريف الأعمال وتحديد مهمتها في ظل أوضاع هشة. فلا هي حكومة تصريف أعمال فكان ينبغي أن تتشكل من خيرة الخبرات الفنية (تكنوقراط)، ولا هي حكومة ثورية فكان ينبغي أن تتشكل من خيرة الكفاءات القيادية (حكومة وحدة وطنية)، ولا الانتخابات كانت عادية حتى تفرز حكومة أغلبية حزبية.
في سوريا قطع خط الرجعة بسرعة من دون إستراتيجية واقعية لإنجاح الثورة وحسم الصراع، ورفعت المعارضة السقف وصعدت الخطاب وتخلف أداؤها السياسي وتشرذمت، فوقعت البلاد في مأزق حصر مصيرها في سيناريوهات قاتمة وجعلها مستباحة للأجندات والأطراف الإقليمية والدولية التي ليست لها مصالح تدفعها للتدخل في أزمة معقدة طالما أنها مطوّقة. وفي غياب خطة قابلة للتنفيذ يبدو أن استنزاف سوريا أو إخماد الثورة أهون بالنسبة للعديد من الأطراف الفاعلة من انتصار ثورة تقدم العشرات من الشهداء يوميا مما قد يغير وجه المنطقة ويهدد الاحتلال.
غيّر الربيع العربي المعادلة السياسية، فأصبح الشعب رقما صعبا بعد أن تجاوز المعارضة وأزاح الأنظمة أو روّضها، فعادت النخب المعارضة إلى المشهد لتحل محل النظام أو تنازعه السلطة أو تتقاسمها معه، وعادت البلاد إلى المربع الأول: صراع نخبوي على السلطة يستباح فيه كل شيء بما في ذلك أرواح الناس وأمن البلاد واستقرارها واقتصادها وسيادتها بين متشبث بالسلطة بكل الطرق ومتلهف عليها بكل الوسائل. وكل المؤشرات والسوابق تنذر باستحكام هذا الصراع المحموم ولو تغيرت مواقع الأطراف المتنازعة.
الشعب يشعر أن ثورته "تسرق" منه وأنها تراوح مكانها وأن أهدافها تضيع في متاهات الصراع على الحكم ممّا خلّف لديه مرارة وقلقا على المستقبل، فهو لم يقم بثورة ليذكي الصراع على السلطة ويصبح وقوده أو ليكتسب حرية التنفيس. والأحزاب المتصارعة لم تتمايز كثيرا في تلهّفها على السلطة وضعف أدائها، وتقديمها للمصلحة الحزبية على المصلحة الوطنية، وافتقارها للمصداقية والشفافية والممارسة الديمقراطية (وفاقد الشيء لا يعطيه)، وأداؤها لا يعكس حرصا على الشعب الذي لم يجن الكثير في مقابل تضحياته الجسام وفقدانه للكثير من أمنه واستقراره وازدهاره، واهتزت ثقة الشعب في كفاءة الأحزاب ونزاهتها بسبب التخبط والتصرفات غير المنضبطة وبعض المواقف المريبة، حتى أن بعض المؤتمرات التي عقدت بعد الثورة لم تختلف كثيرا عن مؤتمرات العهد البائد. كذلك لم تتبلور لدى النخب والعامة على السواء هوية وطنية تقدم المصلحة الوطنية على المصلحة الشخصية أو الفئوية، ولم يتحول الاهتمام بالسياسة إلى انخراط جاد في الشأن العام.
لا شك أن الأطراف الدولية ومن حالفها من أطراف إقليمية ومحلية كانت أكثر جهوزية وأكثر قدرة على الفعل وتوجيه الأحداث من النخب والأحزاب السياسية التي كانت بدورها أكثر جهوزية لجني ثمار الثورة من القوى الثورية. تلك الأطراف الدولية وعلى عكس النخب السياسية العربية تتحرك بناء على معطيات ولها مصالح وأهداف وأجندات محددة وتمتلك العديد من أدوات التنفيذ وأوراق الضغط والمناورة.
ما يجمع تلك الأطراف تضرر مصالحها من الثورة وتوجسها من الإسلاميين لأسباب معروفة عززتها التجارب والسوابق، وبالتالي لن تدخر جهدا في إفشال الثورة وإفشال الإسلاميين مهما تظاهرت بغير ذلك. ولذلك لا ينبغي أن نستبعد أن الإسلاميين وقع توريطهم في الحكم لترويضهم وصرفهم عن الالتحام بالشعب واحتضان الثورة وقيادتها.
فالمهمة شبه مستحيلة في ظل نقص الكفاءة والخبرة وثقل التركة وهشاشة الأوضاع وكثرة المتربصين، ومنعهم من الحكم بالتزوير أو الانقلابات لم يعد ممكنا. وقد كان لافتا أن يخلو طريق الإسلاميين نحو السلطة من العقبات وأن يرحب بفوزهم المرتقب في الانتخابات، ثم ما إن تعلن النتائج حتى تنفجر الأوضاع ويتبين حجم الورطة.
لا مفر بعد الثورة من أن تختار الأحزاب الإسلامية بين تقديم المكاسب الحزبية أو تقديم المصلحة الوطنية وأهداف الثورة، وكل خيار يدفع باتجاه مختلف وتترتب عليه استحقاقات ومقاربات وأولويات مختلفة. وفي كل الحالات تحتاج الحركة الإسلامية بعد الثورة أن تتحول من تنظيم مغلق إلى تيار وطني مفتوح وجامع يعمل على الحفاظ على روحية الثورة والإجماع الشعبي إلى نهاية المرحلة الانتقالية.
أما بعد استلام الحكم فيواجه الإسلاميون اختبارا آخر لا يقل صعوبة، فإما أن يصارحوا الشعب بحقيقة الأوضاع ويسعون إلى علاجات جذرية ولو متدرجة وإصلاحات هيكلية قد تكون مؤلمة وقد تخصم من شعبيتهم، وإما أن يبحثوا عن مسكنات تضمن لهم الفوز في الانتخابات وتبقيهم في السلطة. بعبارة أخرى إما أن يتشبثوا بالمبادئ والمصلحة الوطنية وأهداف الثورة مهما كان الثمن، فتأتيهم الضغوط من كل مكان، وإما أن يتشبثوا بالسلطة مهما كان الثمن فيسهل تطويعهم وبالتالي إحراجهم أمام أنصارهم وشعوبهم. وهل طوّعت الحركات الوطنية ودبّ إليها الفساد والاستبداد إلا جرّاء التشبث بالسلطة؟
وما يخطط للثورة لا يختلف كثيرا عما يخطط للإسلاميين: التعويق والتطويع. قد تتوزع الأدوار وتتنوع التكتيكات لكن الهدف واحد: منع الثورة بكل الوسائل من تحقيق أهدافها وانتشارها لأن ذلك يشكل خطرا وجوديا على كثير من الأنظمة والمصالح. فإما منعا، أو إجهاضا، أو تعويقا، أو حرفا عن المسار باتجاه العسكرة والتدويل والقبلية والطائفية والحرب الأهلية، أو تشويشا، أو احتواء بالضغوط الاقتصادية أو حتى بالمساعدات والاستثمارات.
ولقد بدأت بعض حكومات الربيع العربي تستدرج للعبة المحاور وتقحم في لعبة الكبار (وإن في دور الكمبارس) وتستجيب لمحاولات التطويع المباشرة وغير المباشرة. ويبدو أن السقف المحدد للثورات العربية إن فشلت كل محاولات التعويق هو ديمقراطية محدودة على الطريقة الروسية أو على طريقة دول أوروبا الشرقية، أو شلل سياسي على الطريقة العراقية أو الطريقة التركية قبل بروز حزب العدالة والتنمية كتيار وطني جامع يحمل مشروعا وطنيا واعدا.
كل ذلك لا يعني أن تترك الشعوب الثورة أو أن تيأس من انتصارها أو جدواها، ولا يعني أن تنأى الأحزاب الإسلامية بنفسها عن الحكم والانتخابات. كما أن ما يخطط للمنطقة وللثورة وللإسلاميين ليس تآمرا، إنما هو تدافع في عالم قائم على الصراع ومحكوم بالمصالح وموازين القوة، وليس قدرا مقدورا، ولكنه لا يقاوم ولا تعدل موازين القوة بما نشهده من تخبط وضحالة وتناحر.
فالقضايا المصيرية كالثورة والحكم لا تحتمل الارتجال. والثورة لا تنجح بمجرد الإقدام والتضحية والعمل الميداني والإعلامي، فهي بحاجة إلى عمل سياسي فعال وخطة محكمة لكل المراحل والمسارات والسيناريوهات المتوقعة، مع إبقاء الخيارات مفتوحة وترك مساحات للمناورة حتى لا تخنق الثورة.
كذلك الأمر بالنسبة لمشاركة الإسلاميين في الحكم ينبغي أن تكون واعية ومدروسة ومحسوبة، ولا ينبغي أن يتعلقوا بالحكم فتصبح الغاية البقاء في السلطة وسقف الطموحات تصريف الأعمال. فلا معنى للحكم إذا لم يكن النهوض بالوطن والشعب غايته ومقياس نجاحه.
أما إذا تعذر التخطيط المحكم للثورة أو كانت حظوظها ضعيفة أو كلفتها عالية جدا فإنه يجدر بالشعوب والمعارضة وحتى الحكام أن يتأملوا في النموذج المغربي القائم على مقاربة الإصلاح في ظل الاستقرار، والذي يقود فيه العدالة والتنمية المغربي ثورة هادئة كما فعل نظيره التركي من قبل، خاصة بعد أن تأكد أن البلاد العربية غير جاهزة لتغيير سريع أصبح غير جاذب وغير ممكن.
أما البلاد التي قامت فيها ثورة فإما أن يتخلّق من بعض الأحزاب القائمة تيار وطني جامع وملتحم بالشعب أو أن يبتكر الشعب -قبل أن يستحكم المأزق- طريقة يستكمل بها الثورة كما بدأها، بحيث تفرز الثورة قيادتها وتعبر بسلاسة من مرحلة إلى أخرى.
إن الثورة بحاجة إلى التفاف الشعب حول مشروع وطني حاشد وموحد للطاقات وقيادة وطنية ملهمة ومخلصة ومتجردة ومتواضعة تملك إستراتيجية واقعية محكمة ويحركها عشق الوطن والحرص على الشعب وليس الأمجاد الشخصية والمكاسب الحزبية، وتلك عملة نادرة في البلاد العربية.
ولقد بدأ هذا التيار يتشكل وإن بصورة عفوية في بداية الثورة وكان وراء نجاحها، ولكن عملية تركيب رأس على الجسم الثوري تعثرت ولم يكن ذلك من قلة الإخلاص والجلد، ولكن بسبب أداء سياسي غير مقنع قد يكفي لتصريف الأعمال والحفاظ على المكتسبات في دولة كاملة السيادة استقرت فيها مؤسسات الحكم وتجذرت فيها الديمقراطية وحسمت فيها القضايا السيادية والإستراتيجيات الكبرى، وليس لقيادة ثورة وتحقيق أهدافها والعبور بها نحو الدولة والنهوض بالوطن والشعب، خاصة إذا كانت الثورة تواجه تركة تنُوء بالعُصبة أولي القوة ومكرا لتزول منه الجبال.