"إنَّ النجاح لا يأتي أو يحدث فجأة، بل يأتي بالقوَّة إلى الوجود، ولكي تصبح ناجحاً يجب أن تصرّ على تحقيق هدفك، ولا يمكنك فقط مجرّد التمني والرّغبة أو المحاولة الجادة للنجاح، ولا يكفي فقط أن يكون لديك طموح، بل يجب أن يكون لديك الإصرار الطاغي للنجاح، وأن تكون رؤيتك للنجاح على أنه عبارة عن تذكرة ذهاب بلا عودة ،إما النجاح أو الموت ولا خيار آخر لديك! وأن يكون لديك حماس جنوني للنجاح، فعليك أن تدفع ثمن تحقيق النجاح" ، لاري تومبسون.
أم كلثوم ،اسم غير شائع في زمننا الذي يتسابق فيه الناس إلى تسمية بناتهن بأسماء(مودرن) ومفرطة في الفرادة والغرابة ، فإنني أعرفك على معنى أم كلثوم ،هي صاحبة الوجه الممتلئ الخدين ، وهو معنى فاتن وجميل، وإن بدى في معجم أسمائنا الحديثة بأنّه تقليدي.
وأبوها واسمه عقبة بن أبي معيط ، كان من أشدّ المخاصمين للرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام، وتجاوزت خصومته مستوى الموقف الشعوري، أو حتى اللسان، إلى مستوى استخدام اليد والعنف ضد شخص الرَّسول بهدف تصفيته جسدياً.
غضبنا لما رسم أحدهم كاريكاتيراً مسيئاً لشخص الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام في الدنمارك، أمَّا عقبة فإنَّه حاول مرّتين أن يقتل الرّسول شخصياً، ذات مرَّة وقف خلف الرَّسول وهو ساجد يصلّي ، ولفّ ثوبه حول رقبة الرَّسول وشدّها يحاول خنقه وقطع نفسه ، ولم ينج الرّسول سوى تدخل أبي بكر في آخر لحظة، ومرَّة جاء عقبة إلى الرسول وهو يصلي وفعل نفس الحركة، ولكن هذه المرة بقدمه، وضعها على عنق الرسول وهو ساجد ، وضغط بقوة شديد على رقبته حتى أنَّ عينيه احمرت وكادت تخرج من شدَّة الضغط، وعقبة هو الذي كان يضع القاذروات على ظهر الرَّسول وهو يصلّي.
مناظر مخيفة وتصرّفات مقزّزة، فعلها هذا الرَّجل عقبة ، الذي هو أبو أم كلثوم ، البنت الصغيرة التي قرَّرت بشخصيتها المستقلة، ورغم صغر سنها أن تخالف أباها وتؤمن بمحمَّد عليه الصًّلاة والسَّلام؛ فقد اهتدت رضي الله عنها بعد تفكير عميق: إذ ارتدت ثياب خادمتها، وتلثمت، وخرجت من الدار قاصدة بيت الأرقم بن الأرقم.. وهناك قدمت نفسها وعرفت بشخصيتها !!
فتقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقبول حسن، وشرح لها مبادئ ما يدعو إليه، وتلا عليها بعضاً من آي القرآن الكريم، ثمَّ دعاها إلى الإسلام، فآمنت، وصدقت بكلمات ربّها وكانت من القانتين، ذكره ابن حجر في الإصابة.
كانت أم كلثوم تشعر بغربة داخلية في البيت، فكانت البنت الوحيدة المسلمة في بيتها، وباقي أفراد البيت غير مسلمين، هي الوحيدة التي تصلي وتصوم، ولمَّا هاجر الرَّسول ومعظم المسلمين من مكّة إلى المدينة ظلت أم كلثوم في مكة وفي منزل العائلة لا تستطيع أن تمارس حقوقها في التعبير عمّا تؤمن به خوفاً من قسوة والدها، وظلت حبيسة غربتها ومخاوفها مدَّة طويلة حوالي سبع سنوات ، كانت ممنوعة من أن تذهب إلى حيث أرادت وممنوع عليها أن تخرج بمفردها وبدون مرافق.
كانت أم كلثوم ترى الكعبة، ولكن لا تستطيع أن تطوف حولها، وتتمنى أن تصلّي في بيت الله الحرام، لكن لا تقدر وتتخيّل أنّها تذهب مع صديقاتها إلى المسجد، وبعد وفاة والدها عقبة كافراً في غزوة بدر الكبرى، حزنت حزناً شديداً، فقد كانت تتمنى أن يسلم، انتقلت الولاية على أم كلثوم من أبيها لأخويها : الوليد وعمارة فكانا أشد في التضييق والإيذاء، وبعد غزوتي أحد والخندق؛ حيث شاركا أخواها في طليعة المشركين الخارجين لقتال المسلمين، قرَّرت أم كلثوم أن تضع حدّاً لمعانتها التي استمرت سبع سنوات، وأن تترك مكة وتسافر للمدينة وتبدأ حياة جديدة وطبيعية؟
أحيانا ترهقنا تفاصيل صعود الجبل عن رؤية قمة الجبل، وتقعدنا لو أمعنا الغرق في التفاصيل عن استكمال التسلق، وهذا هو ما يفرّق بين الذين حلموا بالصعود وتوقفوا عند منتصف الطريق وبين من صعدوا إلى أن وصلوا إلى القمة، كانت أم كلثوم تحلم بالهروب إلى مكّة والوصول إلى المدينة وسماع القرآن من فم الرَّسول وأن تصلي وراءه في المسجد النبوي.
أمَّا خطتها في تحقيق حلمها؛ فهو أن تستغل فترة خروجها إلى البادية للنقاهة من حبسة البيت، وتستغفل من يرافقها وتفرّ منه إلى أقرب منفذ بريّ من مكة يصلها بالمدينة، كانت هذه خطتها؛ أمَّا تفاصيل الخطة فكانت صعبة وتقعد أيّ إنسانة عن تنفيذها لخطورتها لو فشلت ، فأم كلثوم بنت صغيرة وإمكانياتها محدودة في الحركة والسفر، وهي لا تعرف الطريق فلا تملك خريطة أو دليلاً ولا مرافقاً ، والرحلة طويلة حوالي 450 كيلو متراً.. ومع ذلك قرَّرت أم كلثوم أن تسافر رغم جميع العوائق.
وبالفعل تمكنت أم كلثوم من أن تستغفل من يراقبها في البادية، وتهرب منه وتمشي بأيّ اتجاه يقودها بعيداً عن مكة، وفي الطريق وجدت رجلاً كان يمكن أن يقتلها أو يعتدي عليها أو يسرقها، ولكن اتضح أنَّه معها وليس ضدها فهو رجل محترم وإن كان غير مسلم ، ومن قبيلة حليفة للرَّسول اسمها خزاعة والأهم أنه متأهب للسفر ويعرف طريق المدينة ، فيا للطف الله وعونه!
وهناك في المدينة رحَّب بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم و أكرم نزلها ومثواها، و وصّى بها أهله و أصحابه، فارتاحت نفسها بعد طول عناء و شقاء ، ولكنّها ما كادت تهنأ بالراحة والطمأنينة حتى وفد أخواها الوليد وعمارة يطلبان تسليم أختهما الفارة تنفيذاً لأحد بنود صلح الحديبية؛ حيث صالح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم الحديبية قريشاً على أن يرد عليهم من جاءهم من المسلمين، فلما هاجرا إليه النساء أبى الله أن يردهن إلى المشركين، ونزلت الآيات بامتحانهن { فامتحنوهن} بالحلف. هل هن مسلمات حقيقة أم لا ؟
قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم و لا هم يحلون لهن و ءاتوهم ما أنفقوا و لا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا ءاتيتموهن أجورهن و لا تمسكوا بعصم الكوافر و سألوا ما أنفقتم و ليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم و الله عليم حكيم }. الممتحنة 10
” و كانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممَّن خرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهي عاتق “الشابة أول ما تدرك ”، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يرجعها إليهم حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل ” رواه البخاري عن المسور بن مخرمة.
فنجحت أم كلثوم في الامتحان، ونجت بدينها من قومها، قيل : الامتحان أن تقول بالحلف: ما خرجت إلاّ حبّاً لله ورسوله.. ما خرجت لالتماس دنيا، و لا من بغض زوج، و قيل : أن تشهد بالكلمة الطيبة، وقد شهدت على ملأ من الأشهاد: أنَّه لا إله إلا الله و أنَّ محمدا رسول الله . أحيانا ترهقنا تفاصيل صعود الجبل عن رؤية قمة الجبل، وتقعدنا لو أمعنا الغرق في التفاصيل عن استكمال التسلق، وهذا هو ما يفرّق بين الذين حلموا بالصعود وتوقفوا عند منتصف الطريق وبين من صعدوا إلى أن وصلوا إلى القمة،
قالت أم كلثوم : يا رسول الله، أنا امرأة، و حال النساء إلى الضعف، فأخشى أن يفتنوني في ديني، و لا صبر لي، فنقض الله العهد في النساء، و أنزل آية الامتحان، و حكم في ذلك بحكم رضوا به كلهم، فامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم و النساء بعدها : ” ما أخرجكن إلا حب الله و رسوله والإسلام، لا حب زوج و لا مال ” فإذا قلن ذلك لم يرددن الإسلام، ثم قال : يأبى الله ذلك فخرجا من المدينة خائبين، وعادا من حيث قدما بخفي حنين.
وصلت أم كلثوم إلى المدينة واندمجت بسرعة رغم طول الغربة التي عاشتها بعيداً عن الجو الإسلامي، وتعلمت القراءة والكتابة، ووظفت هذه المهارات لترك بصمة في ذاكرة التاريخ، فكانت تسمع أحاديث عن الرسول وتوثقها وترويها للأجيال، فقد وافتها المنية في عهد خلافة علي بن أبي طالب، وعاصرت أجيال كثرة خلال المدَّة التي نقلت إليهم أحاديث سمعتها من فمّ رسول الله عليه الصَّلاة والسّلام.
تزوّجت من شهيد مؤتة( زيد بن حارثة) ، ومن حواري (الزبير بن العوام) ، ومن غني (عبد الرحمن بن عوف)، ومن قائد عسكري وسياسي( عمرو بن العاص) ، وصنعت أمراء متخصصين في العلوم الشرعية أبنائها إبراهيم وحميد وأبناء وبنات آخرين.
إنَّ تجربة أم كلثوم ليست دعوة للفرار من مكان إلى ما والسّفر إلى مكان آخر، وإنّما إلى الهروب من العقلية التي لا تحلم بالنجاح، إنَّ تجربة أم كلثوم محفزة، لأنَّ كلَّ جزء منها عبارة عن رغبة وإصرار وإرادة، لم يغيرها الزّمان أو المكان ، فأم كلثوم في مكّة، هي أم كلثوم في المدينة، هي أم كلثوم غير المتزوّجة، وهي نفسها الزوجة والأم الراغبة في تحقيق النجاح مهما كانت العوائق والتحديات.
إنَّ تجربتها ليست مجرّد قصة لامرأة نجحت، وإنَّما امرأة صبرت على رحلة النجاح الشاقة، وكانت على استعداد لدفع ثمن رحلتها.
المراجع:
كيف تصبح نجماً – لاري تومبسون
الإصابة - لابن حجر
أسد الغابة - لابن الأثير
الاستيعاب لابن عبد البر
سير أعلام النبلاء - للذهبي
كوني مختلفة – هشام العوضي