جاء الإسلام برسالة أخلاقيَّة وتربويَّة بالأساس.. "إنما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق [أخرجه البخاري ف"ي الأدب المفرد"]، وبما أن رسالة الإسلام إنما هي رسالة جامعة شاملة، فمن بين أهم الجوانب التي عُنِيَ بها الإسلام كرسالة أخلاقيَّة وتربويَّة، هي تلك المتعلقة بالتنشئة السياسيَّة والاجتماعيَّة.
وتأتي أهميَّة رعاية واهتمام الشارع الأعظم بهذه الجزئيَّة في شريعته التي ارتضاها للبشر، لكون التنشئة السياسيَّة والاجتماعيَّة هي المدخل الرئيسي والأداة الأهم لما يجب على الإنسان أن يدركه حول نفسه، وهو دوره الخاص والعام في الحياة الدنيا، والرسائل المطلوبة منه القيام بها وبأعبائها، وعلى رأسها عبادة الله سبحانه وتعالى والتمكين لشريعته، وعمارة الأرض بالشكل المطلوب لتحقيق هذه الأهداف والغايات.
التنشئة في الأدبيات السياسيَّة والاجتماعيَّة تُعرَّف على أنها عمليَّة تعليميَّة يخضع لها الفرد من أجل بناء مركزه ودوره في المجتمع،
وهي على قدر كبير من الأهميَّة لأي مجتمع يريد تحقيق منجزات كبرى في مجال النهضة والتنمية، ولذلك فهي عمليَّة شاملة؛ حيث تشمل كل أركان المجتمع، وطبقاته، وكذلك تحتاج إلى جهود جميع الأطراف، من أجل تحقيق الوحدة في الرؤى والهدف والأساليب.
والتنشئة السياسيَّة جزء من التنشئة الاجتماعيَّة؛ حيث يكتسب الفرد الاتجاهات والقيم السائدة في المجتمع, نحو شؤون السياسة والحكم والدولة والسلطة كالولاء والانتماء والشرعيَّة والمشاركة، وغير ذلك من أركان منظومة القيم والمعتقدات والرموز التي تكون هويَّة المجتمع.
ومن بين أهم الأدوار المطلوبة من المؤسسات التي تعمل في هذا الاتجاه في المجتمع، بما في مؤسسة الأسرة ومؤسسة المسجد، هو تحديد الرؤية والاتجاه لدى الفرد.. تجاه نفسه، وتجاه مجتمعه، وتجاه الحاكم الذي يحكمه، وطبيعة الأدوار التي يلعبها كل من هذه الأطراف، أي كيف يتصرف الفرد ويتحرك، وما هي أهدافه، وكيف يقوم المجتمع بدوره، والدور الخاص بالحكومات وضوابطه، وطبيعة العلاقة السليمة التي يجب أن تقوم بين الحاكم والمحكوم.
وفي المجتمع الإسلامي، يجب أن تنبع التربية أو التنشئة السياسيَّة والاجتماعيَّة، من العقيدة الإسلاميَّة، ومن مبادئ الإسلام وأصوله، ومن أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها.
يقول الدكتور عبد العزيز التويجري، إن التربية السياسيَّة والاجتماعية في المنظور الإسلامي، ليست خارجةً عن سياق المنهج الإسلامي وعن روح الإسلام، وعن فلسفته العامة التي هي جوهر رسالته وجماع تعاليمه، وهي أيضًا جزء أصيل لا يتجزأ من المنظومة الشاملة المترابطة المتكاملة، التي تُشكِّل القيم والمقوِّماتِ الأساسيَّة للتعاليم الإسلاميَّة الهادية إلى أقوم السبل في الحياة، على المستويين الفردي والجماعي.
ومنهاج النبوَّة واضح في هذا الجانب، فالرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، بدأ تبليغ ما أُنزل إليه، في سنوات البعثة الأولى التي قضاها في مكة المكرمة، من خلال أدوات التربية والدعوة، وعمل على تنشئة جيل من المسلمين يقوم بأعباء الرسالة.
هذه الأدوات اعتمدت على عدد من الأركان، أولها غرس قيم الإسلام الأخلاقيَّة في نفوس هذا الجيل، وجعلها سلوكًا لهم، و ثانيها تبصيرهم بحقيقة الأدوار التي اصطفى الله عز وجل الإنسان بها في هذه الدنيا، والمطلوب منهم بدقة في هذه المرحلة، وثالثها التأكيد على عِظَم المهمة، وبالتالي عِظَم الثواب الذي ينتظر الإنسان إذا ما قام بما أُمر به وما هو مطلوب منه.
تنشئة النبي صلى الله عليه وسلم لأتباعه ساعدت جيل المسلمين الأوائل على
أن يسودوا العالم
لذا فهذه التنشئة هي التي ساعدت جيل المسلمين الأوائل على أن يسودوا العالم في أقل من ثلاثة عقود، محققين ما عجزت إمبراطوريات العالم القديم عن القيام به في قرون طويلة.
وتنطلق النظريَّة الإسلاميَّة في التنشئة السياسية والمجتمعيَّة من عدد من الثوابت والأركان، أولها أنه يجب إدراك أن الإسلام عقيدة وشريعة، ودين ودنيا، وأنه وضع القواعد الكلِّيَّة التي تشمل جميع مجالات الحياة، ولا تقتصر على مجال واحد.
وثاني هذه الثوابت أنه عندما أراد الله عز وجل أن تكون الدنيا هي الدار المؤقتة؛ فإن شريعته لم تتركها سدىً أو هباءً، وإنما نظمت شريعة الله عز وجل الدنيا، ووضعت ضوابط للمجتمعات الإنسانيَّة، فالإسلام أحكم تنظيم العلاقات الاجتماعيَّة على مختلف المستويات، الأسرة والمجتمع، كذلك نظم الحياة السياسيَّة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم.
والرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" فصَّل في كل هذه الأمور، من خلال النص الإلهي المُنزَّل أولاً، ثم الخبرة والممارسة، وهي جزء لا يتجزَّأ من السُّنَّة النبويَّة الشريفة.
وتبدو مرونة الإسلام، وهي أمر لابد منه لاعتبار صلاحيَّة الشريعة لكل زمان ومكان، في أنها جاءت بأحكام عامة وقواعد غير مفصلة لسياسات الدولة وأنظمة الحكم والاقتصاد والمجتمع.
وهذه المرونة التي يتمتع بها الإسلام تضمن أمرًا شديد الأهميَّة لتقدم المجتمعات الإنسانيَّة، وهي إطلاق حرية التفكير والتخطيط للإنسان، وفتح الأفق أمامه على هَدْي الأحكام والمبادئ العامة التي جاءت في الإسلام.
والتنشئة على منهاج الإسلام- بشكل عام- تهدف إلى تحقيق غاية إيجابيَّة، وهي توعيه الإنسان، توعيته بدوره وبكونه خليفه في الأرض، وأنه خليفة في عمران الله عز وجل، والذي سخره سبحانه لخدمة الإنسان، وتوعية الإنسان كذلك بالعوائق التي تعترض طريقه في التعامل مع منهج الله سبحانه وتعالى، وبالتالي تحديد أساليب التعامل معها وفق منطق واقعي تطبيقي.
وفي الأخير، فإنه من الأهميَّة بمكان العمل على تأصيل المنهج الإسلامي في مجال التنشئة والتربيَّة بمختلف أركانها، السياسيَّة والاجتماعيَّة، وكذلك الأخلاقيَّة؛ حيث إنها الأداة الرئيسيَّة لإخراج جيل واعٍ يفهم ماهيَّة وجوده وحقيقة أدواره.