فإذا عزمت فتوكّل على الله ..

الرئيسية » بصائر تربوية » فإذا عزمت فتوكّل على الله ..
alt

(أعرف كثيراً من النَّاس لا يعوزهم الرَّأي الصَّائب، فلهم من الفطنة ما يكشف أمامهم خوافي الأمور. بيد أنَّهم لا يستفيدون شيئاً من هذه الفطنة، لأنَّهم محرومون من قوَّة الإقدام، فيبقون في مكانهم محسورين بين مشاعر الحيرة والارتباك). الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه ((جدّد حياتك)).

ذلك أنَّ عقيدة التوحيد وتعاليم الإيمان والإسلام لا ترتبط بالتردّد والشك والوسوسة، بل هي  تدعو دائماً إلى المضي دون تردّد، والانطلاق والمسارعة في الاستجابة لله ولرسوله، ولنداء العقيدة والتوحيد دون أدنى شك أو ريبة، ولاشك أنَّ هناك معوّقات كثيرة ومثبطات عديدة تحول دون الإسراع في التنفيذ ونسيان تحديد الهدف والغاية، لذا جاء الأمر النبوي بوجوب النيّة عند البدء بكلِّ عبادة أو معاملة، فقال الرّسول عليه الصَّلاة والسَّلام: ((إنَّما الأعمال بالنيات وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )). (صحيح البخاري).

فلا يقبل الله سبحانه وتعالى عملاً إلاً إذا كان خالصاً وموافقاً لما جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية المطهّرة، ولا يكون ذلك إلاَّ بالنية الخالصة التي من شروطها الجزم واليقين، ومن ثمَّ كان العزم في تنفيذ الأوامر والأعمال صفة رسل الله الكرام، حيث وصف ثلة من أنبيائه بأولي العزم، فقال:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف:35).

وفي تعريف العزم يقول الرَّاغب في مفرداته: (العزم والعزيمة: عقد القلب على إمضاء الأمر، يقال: عزمت الأمر، وعزمت عليه، واعتزمت، وقوله تعالى :{ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (طه:115)، أي: محافظة على ما أمر به وعزيمة على القيام. والعزيمة: تعويذ، كأنه تصور أنك قد عقدت بها على الشيطان أن يمضي إرادته فيك. وجمعها: العزائم).
إنَّ التردّد وعدم حسم الأمور ليسا من شيم الرِّجال أصحاب الدَّعوات وحملة الرّسالات، وليسا من شيم الشباب المطّلعين إلى مستقبل مشرق بالإيمان والعلم
التردّد تهمة للإيمان ..

إنَّ التردّد وعدم حسم الأمور ليسا من شيم الرِّجال أصحاب الدَّعوات وحملة الرّسالات، وليسا من شيم الشباب المطّلعين إلى مستقبل مشرق بالإيمان والعلم، يقول المتنبي:

إذا كنتَ ذا رأيْ فكُنْ ذا عَزِيمَةٍ ... فإنَّ فَسادَ الرَّأْيِ أنْ تَتَردَّدا

وممّا ينسب  إلى عليّ كرّم الله وجهه :

وإن كنتَ ذَا عزمٍ فانْفِذْه عاجلاً ... فإنَّ فسادَ العزم أن يتقيَّدا

والحق كما يقول الشيخ الغزالي أنَّ الرّجولات الضخمة لا تعرف إلاَّ في ميدان الجرأة، وأنَّ المجد والنجاح والإنتاج تظل أحلاماً لذيذة في نفوس أصحابها، وما تتحوَّل حقائق حيَّة إلاَّ إذا نفخ فيها العاملون من روحهم، ووصلوها بما في الدنيا من حس وحركة. وكما أنَّ التردد خدش في الرجولة، فهو تهمة للإيمان، ومن هنا كان فعل الرّسول صلَّى الله عليه وسلّم في غزوة أحد  مخافة أن تصطبغ شؤونه بطابع التردّد، أو التأرجح بين إرادات شتى، وقال كلمته الحاسمة : (ما كان لنبي أن يلبس لَأَمَتَه ثمَّ يرجع حتى يحكم الله بينه وبين عدوه).

ومن أمثال العرب: ( العزيمة حزم)، والعزم القطعُ على الأمر بعد الرَّويَّة فيه، ولهذا لا يوصف الله عزَّ وجل بالعزم، كما لا يوصف بالرَّويَّة، لأنَّ التردّد صفة نقص وضعف, ولا يتردّد إلا ضعيف الإرادة.  ومن الحكمة : (إذا رأيت صواباً فلا تتردَّد فيه، ولكن امض عليه، فإن ذلك هو الحزم).

ومن العزم الثبات في الطلب وعدم التنقل بين التخصصات المختلفة دون إكمال أحدهما، والتشتت في العزمات، ويصف الشيخ عائض القرني في إحدى محاضراته هذا المعنى بقوله : (من الأخطاء كذلك في طلب العلم: عدم الانضباط في فن واحد، وعدم المسار الصحيح في التلقي، تجده يدرس اليوم فقهاً وغداً حديثاً، ينتقل من كتاب إلى كتاب، فيحصل معلومات عامة من كل بحر قطرة، عنده حديث من فتح الباري ، وعنده مسألة من المغني وعنده تحقيق وخلاف من نيل الأوطار، وعنده حفظ يحفظه في بلوغ المرام، وعنده مراجعة في رياض الصَّالحين)، ويستشهد بقول ابن قيم الجوزية في كتابه الفوائد: ومشتت العزمات ينفق عمره حيران لا ظفر ولا إخفاق.

ماذا بعد العزم ؟إنَّ الرّجولات الضخمة لا تعرف إلاَّ في ميدان الجرأة، وأنَّ المجد والنجاح والإنتاج تظل أحلاماً لذيذة في نفوس أصحابها، وما تتحوَّل حقائق حيَّة إلاَّ إذا نفخ فيها العاملون من روحهم، ووصلوها بما في الدنيا من حس وحركة.
يربط المولى سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بين العزم والتوكل، فيقول: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} . (آل عمران:159). ذلك أنَّ للبحث والتبصر أجلاً يتضح بعده كلّ شيء، ولا يبقى مكان إلاَّ للعمل السَّريع وفق ما هدت إليه الرَّويَّة واستبانه الصَّواب، فالتوكل على الله هو ردّ الأمور إلى صاحبها ومُبدِئها ومعيدها، قال سبحانه: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}. (آل عمران:160). وقال تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (النساء:81) أي: اكتف به أن يتولى أمرك، ويتوكل لك، وعلى هذا قولنا في كل شؤوننا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران:173).

إنَّه التوكل تلك الصفة التي يحبّها المولى سبحانه في عباده المؤمنين،{ إن الله يحب المتوكلين } . . يقول سيّد قطب في الظلال : ( والخلة التي يحبها الله ويحب أهلها هي الخلة التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمنون.  بل هي التي تميز المؤمنين . . والتوكل على الله ورد الأمر إليه في النهاية هو خط التوازن الأخير في التصور الإسلامي وفي الحياة الإسلامية . وهو التعامل مع الحقيقة الكبيرة : حقيقة أنَّ مرد الأمر كله لله، وأنَّ الله فعال لما يريد ...

ردِّد دائماً قوله صلَّى الله عليه وسلّم : ((اللَّهمَّ إنِّي أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرُّشد)، فإذا حصل الثبات أولاً والعزيمة ثانياً والتوكل ثالثاً كان الفلاح والنجاح والتوفيق حليفك بإذن الله تعالى.. فإذا هَمَمْت فبادر، وإذا عزمت فثَابِر، واعلم أنَّه لا يُدرِك المفاخر من رضي بالصف الآخر، قال الله تعالى: { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}.

مراجع للاستزادة :
- في ظلال القرآن – سيّد قطب.
- جدّد حياتك – محمد الغزالي.
- لا تحزن – عائض القرني.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

بين فرحتي الصائم

لا شك أن المؤمن الواعي المدرك لرسالته سواء كان كاتبًا أو مهندسًا أو صاحب عمل …