كان شيخاً جليلاً موقراً ذا تواضع جمّ، يجلس في حلقته الكبير والصَّغير .. والعالم والمتعلّم .. في حي المهاجرين بدمشق .. وفي جامع الحمد كان الشيخ القارئ الجامع بكري الطرابيشي يجلس السَّاعات الطوال يعلّم طلاّبه التجويد وأحكام القراءة المرتلة للقرآن الكريم .. وكم من الطلاب الذين تخرّجوا على يديه حفّاظاً ومقرئين ! تنوّعت شرائحهم وتعدّدت أمصارهم، من المغرب العربي والمشرق ودول شرق آسيا وأمريكا وغيرها من أقطار العالم ..
وبعد سنوات حافلة بالعطاء والدّعوة وخدمة القرآن الكريم انتقل الشيخ بكري الطرابيشي إلى رحمة الله تعالى، فوافته المنيَّة في مدينة دبي بالإمارات العربية المتحدة، حيث ألّم به المرض واشتّد، لتلفظ نفسه وروحه التي تعلّقت بآيات القرآن الكريم وأنواره ..
ولد الشيخ بكري الطرابيشي رحمه الله في دمشق سنة 1338 للهجرة 1921م في بيت علم ودين وسنة وتوفي رحمه الله في دبي يوم الخميس 1/4/1433هـ.
حفظ الشيخ بكري الطرابيشي رحمه الله القرآن وهو في الثانية عشرة من عمره وأجاده حفظاً وتلاوة في عمر الخامسة عشرة، وحينما كان في الثانية عشرة أخذه والده إلى الشيخ عبد الوهاب الحافظ (والمعروف أيضاً بالشيخ عبد الوهاب دبس وزيت وكان هذا لقب عائلته من قديم)، ولما وجد لدى الشيخ عبد الوهاب مشقة وتشديداً في الإقراء انتقل إلى التتلمذ على يد الشيخ عز الدين العرقسوسي، وعندما بلغ العشرين من عمره قرأ الشيخ بكري على يد الشيخ عبد القادر الصبّاغ الذي أخذ القراءة على الشيخ أحمد الحلواني الكبير، وقد أجازه الشيخ محمد سليم الحلواني سنة 1942 في القراءات السبع من طريق الشاطبية، وكان آخر من أجازه الشيخ محمد سليم الحلواني فقد توفي بعد ذلك بوقت قصير. لاحقاً أخذ الشيخ بكري الطرابيشي القراءات العشر على قرينه الشيخ محمود فائز الديرعطاني، ويحمل الشيخ بكري اليوم أعلى سند على وجه الأرض، بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبع وعشرون قارئاً بالدرجة نفسها التي هو عليها اليوم.
يحمل الشيخ بكري اليوم أعلى سند على وجه الأرض، بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبع وعشرون قارئاً بالدرجة نفسها التي هو عليها اليوم.
إنَّ أبرز ما يميّز حياة الشيخ بكري هو تفانيه في تعليم وخدمته للقرآن الكريم وعلومه، وبراعته في إتقان هذا الفن، وحصوله على أعلى سند يوصله بالقارئ الأوَّل صلوات ربّي وسلامه عليه، فلا يوجد على وجه الأرض من يحمل هذا السند العالي في حفظ وتلاوة القرآن الكريم.
لقد نظم الشيخ الطرابيشي رحمه الله سنده نظماً من أربعين بيتاً ذكر فيها تسلسل أخذ الإجازة منه وصولاً إلى سند الإمام الشاطبي، منها:
باسمك ربّي كلّ خير بدأته لك الحمد من بكري الطرابيشي مرسلا
وأزكى صلاة مع سلام على النبي محمد الهادي وآلٍ ومن تلا
ويشكر بكري ربه إذ أعانه على نقله القرآن عذباً مسلسلا
ويشكره إذ قد أعان بنقله حروفاً أتت في الحرز للسبعة الملا
على ما حوى التيسير إذ كان أصله وعنه رواه الشاطبي معلّلا
الإسناد من الدّين ..
قال ابنُ الصَّلاح في مقدمته: (أصل الإسناد أولاً خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمَّة وسنة بالغة من السنن المؤكدة ، رَوينا من غير وجه عن عبد الله بن المبارك أنَّه قال: ((الإسناد عندي من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء)).
فالإسناد العالي كان مطلب الصَّحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان من العلماء والصالحين، قال الحاكم : (فأمَّا طلب العالي من الأسانيد فإنها مسنونة وقد رحل في طلب الإسناد العالي غير واحد من الصَّحابة).
وقال الإمام أحمد : (طلب الإسناد العالي سنة عمَّن سلف). ورُوي عن يحيى بن معين قيل له في مرضه الذي مات فيه : (ما تشتهي؟)، قال:(بيت خالٍ وإسناد عالٍ). وقال الثوري: (الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن مع سلاح فبأيِّ شيء يقاتل).
محاذير !
تساءل علماء الحديث، فقالوا : هل العلو ممدوح مطلقًا ؟ وأجابوا بقولهم: إنَّ العلو منه ما هو ممدوح، ومنه ما هو مذموم ، فيُمْدَح الإسناد العالي إذا كان صحيحاً. وأكَّدوا أنَّه إذا كان طلب علو إسناد فيه كذابون وما أشبه ذلك فلا يُفْرَح به. ولذا عاب العلماء طالب ذلك، فقال الإمام الذهبي: (متى رأيتَ المحدِّث يفرح بعوالي هؤلاء يعني فاعلم أنَّه عامِّيٌ بَعْدُ ).
وكان الإمام أحمد ابن حنبل ينكر على الذين يهتمون بالأحاديث العالية مع ضعفها، وقال يحيى بن معين: (حديث النزول عن ثَبْتٍ ؛ خير من العلو عن غير ثَبْت).
لماذا الإسناد ؟
إنَّ ذلك يحتّم علينا أن نزيد من تمسكنا بهذا السنة الحميدة التي تميّزنا أمتنا عن غيرها من الأمم، وأن ننشرها بين النَّاس ونعمّمها في تواصلنا مع النَّاس خصوصاً في مواقع التواصل الاجتماعي
لا يمكن لأمَّة من الأمم عبر التاريخ أن تسند عن رسولها أو نبيّها إسناداً متصلاً غير هذه الأمَّة، سواءً كان سماعاً لحديث النبيّ عليه الصَّلاة والسَّلام، أو سماعاً للقرآن الكريم، ولهذا تداعت رغبات كثير من الأئمة النقَّاد، والجهابذة الحفاظ، إلى الرِّحلة إلى أقطاب البلاد، طلباً لعلو الإسناد، وذلك لأنَّ علو الإسناد أبعد من الخطأ والعلّة من نزوله، وأشرف أنواع العلو ما كان قريباً إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
يصف ابنُ سيرين حال المسلمين مع الإسناد فيقول: (كانوا في الزَّمن الأوَّل لا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة سألوا عن الإسناد، لكي يأخذوا حديث أهل السنة ويدعوا أهل البدع).
هذا في القرون الأولى، فما بالك في هذا العصر الذي نعيشه ! عصر سرعة التواصل، وكثرة وسائل الاتصال وانتشارها بين النَّاس، وسهولة استخدامها من قبل شرائح المجتمع كافة، حيث ينتشر الخبر بسرعة فائقة، ويكثر ناقلوه بين النَّاس، ومن هنا وجب التثبت وطلب الإسناد.
إنَّ ذلك يحتّم علينا أن نزيد من تمسكنا بهذا السنة الحميدة التي تميّزنا أمتنا عن غيرها من الأمم، وأن ننشرها بين النَّاس ونعمّمها في تواصلنا مع النَّاس خصوصاً في مواقع التواصل الاجتماعي كـ"الفيس بوك"،و"التويتر" وغيرها.