"حتّى أحبَّه" .. إنَّها أمنية كلِّ إنسان أن يحصّل ويظفر بمحبَّة الله عزّ وجل له .. وما أنبلها من أمنية يسعى إلى تحقيقها في كلِّ لحظات عمره ..! وما أسعدها من لحظات حين يستشعر المرء تلك المحبّة في حركاته وسكناته وشؤون حياته كلّها .. !
فما سبيل الوصول إلى تحقيق تلكم الأمنية ؟
في هذا الحديث القدسي الشريف خارطة طريق للحصول والظفر بمحبّة الله عزّ وجل .. عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: ((إنَّ الله قال: ... وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ ممَّا افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتّى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها..)). (صحيح البخاري).
الفرائض قبل النوافل ..
ممّا يرشد إليه الحديث السَّابق تقديم العناية والاهتمام بالفرائض على العناية بالنوافل، فلا يستطيع أن يشارك في ميدان السباق من كان مضيّعاً للفرائض، ومن كان مقصرّاً في الالتزام بها، إذ مَنْ كان ذلك ديدنه، فهو مخالف لسنَّة الاعتدال، ومجانب لفقه الأولويات، فكيف بمن يسارع إلى صلاة التراويح و يُهْمِل صلاة العشاء ؟! وكيف بمن يهتم بقيام الليل وينام عن صلاة الفجر ؟!
فالأولى أن يقدّم الاهتمام بأداء الفرائض على الاهتمام بالنوافل، والمقصود بأداء الفرائض أداؤها في أوقاتها وإحسانها بإتمامها على الصفة الشرعية الثابتة عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم، ومراعاة سننها وآدابها، وهي أول ما ينشغل به العبد في حياته كلّها.
ومن حكمة المولى سبحانه أن فرض على عباده فرائض معيّنة من عبادات مخصوصة، ولم يفرضها عليهم إلاَّ بأعداد معيّنة وأوقات محدّدة رحمة ورأفة بهم، وفي المقابل شرع لهم سبحانه وتعالى نوافل من جنس هذه الفرائض ليتقرَّبوا بها إليه، ويطلبوا الزُّلفى والقُربى لديه، لينالوا بذلك شرف "حتى أحبّه، فإذا أحببته ..".
في الصَّلاة نافلة ..
في عبادة الصَّلاة لم يفرض الله سبحانه على عباده إلاَّ الصَّلوات الخمس في اليوم والليلة، ففي الحديث الصَّحيح، عن طلحة بن عبيد الله : أنَّ أعرابياً جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثائر الرَّأس، فقال: يا رسول الله، أخبرني ما افترض الله عليَّ من الصَّلاة. قال : ((الصَّلوات الخمس إلاَّ أن تطوّع شيئاً)). (صحيح البخاري).
ومن نوافل الصَّلاة التي حثَّ عنها رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلّم نذكر ما يلي:
-نوافل الصَّلوات الخمس: عن أم حبيبة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ((من صلّى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة؛ أربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الفجر)). (صحيح مسلم).
-صلاة الضُّحى: عن عاصم بن ضمرة عن علي قال : ((كان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يصلي الضحى)). (صحيح ابن خزيمة)، وفي صحيح مسلم باب : (استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان وأكملها ثمان ركعات وأوسطها أربع ركعات أو ست والحث على المحافظة عليها).
-قيام الليل: عن أبي أمامة الباهلية : عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ((عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وهو قُربة لكم إلى ربكم ومكفرة للسيّئات ومنهاة عن الإثم)). (صحيح ابن خزيمة).
-صلاة التهجد: قال الله تعالى : {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}. (الإسراء:79). قوله تعالى: {فتهجد} أي: اترك الهجود وهو النوم، وصل واقرأ القرآن . وقوله : {نافلة لك} فريضة لك زائدة على الصَّلوات المفروضة على عامَّة الأمّة.
في الصِّيام نافلة ..
في عبادة الصَّوم لم يفرض المولى سبحانه على عباده إلاَّ صوم شهر رمضان المبارك، فقال سبحانه :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. ( البقرة:183-184).
لكنَّ الله تعالى ترك باب النوافل مفتوحاً ليتسابق المؤمنون في المضمار لينال السبق منهم من اجتهد وثابر، وفيما يلي بيان ما أرشدنا إليه المصطفى من نوافل الصيام، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ..
- صيامُ يوم وفطر يوم وهو أفضل صيام التطوع. عن عبد الله بن عمرو ابن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: ((إِنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ وَأَحَبَّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا )). (متفق عليه).
- صيام ثلاث أيام من كلِّ شهر؛ أي: ثلاثة أيام، والأفضل أن تكون أيام البيض : عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: (( أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثٍ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُدَ )) (متفق عليه).
- صيام التسعة الأولى من ذي الحجة وآخرها يوم عرفة: عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قال : قال رسول الله صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : (( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )). (رواه أبو داود).
- صيام يوم عرفة : عن أبي قتادة رضي اللَّه عنه قال: ((سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ)). (رواه مسلم).