يزعم بعض المغرضين أنَّ إيمان المسلم بالقضاء والقدر يفقده القدرة على الاختيار، ويجعله مسلوب الإرادة، ويدفعه إلى السلبية والكسل والتواكل وترك العمل.
فكثيراً ما تقع حوادث وقضايا في المجتمع يذهب ضحيتها أناس أبرياء، أو تزهق فيها أرواح، ومن ذلك من يقود مركبته بسرعة كبيرة ويتسبب بكارثة تضيع الأموال والأنفس ثم يعلل هذا الحادث فيقول قضاء وقدر!! وآخر يطلق العيارات النارية في أحد الأعراس ويتسبب بكارثة فيحرم عائلة من أب أو أم، ثمَّ يعلّل بقوله: قضاء وقدر!!
فما حقيقة القضاء والقدر وما موقعه من العقيدة الإسلامية، وما أثر هذه العقيدة على حياة المسلم وعلى المجتمع؟
الأخذ بالأسباب مع التوكل
الدكتور محمود عنبر الأستاذ المساعد في قسم التفسير وعلوم القرآن في الجامعة الإسلامية بغزة قال لــ"بصائر":" إنَّ الله تعالى خلق الأشياء وجعل فيها خصائص، فالنار تحرق.. والسكين تقطع.. والماء يغرق وهذا وذاك لا يحاسب عليه الإنسان، وخواص الأشياء التي خلقها الله تعالى إذا استخدمها الإنسان في مجال الخير يثاب وإذا استخدمها في مجال الشر يعاقب".
وتابع بالقول :" كما أنَّ القدر لا يعني الاستسلام والذل والتقاعس بحجة القدر، وإنَّما يعني الأخذ بالأسباب والقيام بالعمل مع التوكل على الله، فالجوع قدر يدفع بقدر الأكل، والرُّسوب قدر يدفع بقدر الجد والاجتهاد، والمرض قدر يدفع بقدر التداوي والعلاج، فصدق التوكل على الله يعد أحد الأسباب المادية التي قدرها الله وأمر بها".
وأردف عنبر قائلاً:" إنَّ الاعتقاد الصَّحيح بالقدر يجعل المسلم ينطلق في دنياه ساعياً لرزقه، وبناء حياته واكتساب علمه مجداً دؤوباً لا يعرف الكسل ولا التواكل، وإنَّما يتوكل على الله الذي يستلهم منه الرشد والتوفيق، لأنَّ الإنسان حينما يسير أو يعمل فهو في قضاء الله، وفي قبضته، وأنَّه المحاسب له على كل قول وعمل فبقدر ما ينطلق يبتغي رضوان الله في كلِّ أقواله وأعماله، يكون مؤثراً فاعلاً في هذه الحياة".
القدر لا يعني الاستسلام والذل والتقاعس بحجة القدر، وإنَّما يعني الأخذ بالأسباب والقيام بالعمل مع التوكل على الله
الفهم يدفع إلى التفاؤل
وبيَّن عنبر أنَّ فهم القضاء والقدر على وجهه الصَّحيح يؤدّي إلى قوة العزم على أفعال الخير والقضاء على التردّد والحيرة ويبعد الندم والحسرة عن نفس المسلم على شيء فقده أو فاته، فتسمعه يردد: (قدر الله وما شاء فعل)، مضيفاً أنَّ الإيمان بالقدر يورث في النفس المؤمنة الصَّبر عند المصائب.
واستكمل عنبر حديثه بالقول:" كما أنَّ الإيمان بالقضاء والقدر يدفع المؤمن إلى التفاؤل والرِّضا وعدم التشاؤم، فالمسلم لا يعلل المصائب بعلل غير صحيحة، ومن هنا كان تحريم التشاؤم ،من صوت البوم أو رؤية أحد الناس أو التشاؤم من الأمراض أو مما يراه بعض الناس في نومهم".
وأشار عنبر إلى أنَّ الذين لا يؤمنون بالقدر خيره وشره من الله تعالى فإنَّهم يتيهون ويضلون ويهلكون، كما حدث مع قارون الذي بغى وأفسد ورفض الإيمان بقضاء الله وقدره واعتبر أنَّ ما لديه من الكنوز إنَّما كان من كده وجده ولم يكن من الله تعالى فقال : {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}. (القصص:78)، فكان مصيره {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ}. (القصص: 81).
إنَّ الفهم الخاطئ للقضاء والقدر يورث التلبّس بالعقلية المستسلمة التي تركن إلى الوهن والتكاسل نتيجة اعتقادها الخاطئ، وتوهن العزائم وتعطل السعي وتبث روح الكسل بالتقاعس عن العمل
الفهم الخاطئ للقضاء والقدر
وقال عنبر:" إنَّ الفهم الخاطئ للقضاء والقدر يورث التلبّس بالعقلية المستسلمة التي تركن إلى الوهن والتكاسل نتيجة اعتقادها الخاطئ، وتوهن العزائم وتعطل السعي وتبث روح الكسل بالتقاعس عن العمل، وتفشّي الانحطاط والتخلّف في أوساط الواقع الاجتماعي نتيجة امِّحَاءِ دواعي السعي من الخواطر، والاتكال على الظروف والفرص المحتملة والاستسلام للوضع الراهن من دون المبادرة إلى تغييره".
وأضاف عنبر أنَّه يدفع أيضاً للوقوف مكتوفي الأيدي في وجه الكوارث نتيجة إيثار البطالة والكسل، ومن ثمّ الوقوع في المصائب، مع الميل في معظم الأحيان إلى الخرافة والشعوذة بدلاً من التمسّك بالأسباب الطبيعية الكامنة وراء الوقائع، وتفسير التخلّف تفسيراً دينياً على أساس القضاء والقدر، ومن ثمّ تضعيف صلة بعض أبناء المجتمع ولا سيّما الشباب بالدين واندفاعهم إلي التخلّي عن الأسس والمبادئ الدينية من أجل نيل التقدّم والاندماج في مسارات التحديث، وانتشار الفساد.
بالرغم من أنَّ القدر لا مفر منه إلاَّ أنَّه لا يعني أن الإنسان مجبر على القيام بالأعمال، لأنَّه لو صح ذلك لبطلت التكاليف وبطل الثواب والعقاب المترتب عليها
الفرق بين القضاء والقدر
ومن جانبه، قال د.ماهر السوسي نائب عميد كلية الشريعة والقانون، وأستاذ الفقه المقارن في الجامعة الإسلامية بغزة :"إنَّ الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره هو ركن من أركان الإيمان، ولا يكتمل إيمان المؤمن إلاَّ به، مستدلاً بقوله صلّى الله عليه وسلّم : ((لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه)). (مسند الإمام أحمد).
وأضاف أنَّ المقصود بالقدر هو النظام المحكم الذي وضعه الله لهذا الوجود، والقوانين العامَّة والسنن التي ربط الله تعالى بها الأسباب بمسبباتها، والقضاء إيجاد الله للأشياء حسب علمه وإرادته.
وأوضح السوسي أنَّ القدر تدبير والقضاء حكم، والقدر تعميم والقضاء تنفيذ، والقدر أسباب أوجدها الله في مخلوقاته، في حين أنَّ القضاء مسبّبات تحدث من التقاء الأسباب مع بعضها البعض.
القدر لا يجبر القيام بالأعمال
وشدَّد على أنَّه بالرغم من أنَّ القدر لا مفر منه إلاَّ أنَّه لا يعني أن الإنسان مجبر على القيام بالأعمال، لأنَّه لو صح ذلك لبطلت التكاليف وبطل الثواب والعقاب المترتب عليها، متسائلاً:" كم من الناس يعلمون بأحداث كثيرة قبل وقوعها، كعلم بعض المعلمين برسوب تلميذ من التلاميذ في امتحان ما على سبيل المثال، من قرائن وأدلة كثيرة، غير أنَّ هذا العلم لا يكون له الأثر في إجبار التلميذ على الرسوب".
الإسلام لا يسمح أبداً أن يضل الإنسان أو ينحرف عن أوامر الله ثمَّ يتعذر بالقدر، كشأن من يحتجون بالقدر وهم يرتكبون المعاصي متخذين من هذا الاحتجاج عذراً لأنفسهم
وأوضح السوسي أنَّ الإسلام لا يسمح أبداً أن يضل الإنسان أو ينحرف عن أوامر الله ثمَّ يتعذر بالقدر، كشأن من يحتجون بالقدر وهم يرتكبون المعاصي متخذين من هذا الاحتجاج عذراً لأنفسهم، "وهذا جهل فاضح وافتــــراء على الله، لأنَّ القـــدر - أي علم الله - لا يجبر على القيام بالأعمال، فلا يجوز أن يتخذ الإنسان من القدر ذريعة لارتكاب المعاصي أو تغطية على تهاون أو تقصير".
أدلة الفهم الخاطئ للقدر
وذكر السوسي بعض الأمثلة على الفهم الخاطئ للقدر بما حدث في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين سرق أحد اللصوص، فلما حضر بين يدي عمر سأله: لم سرقت؟ فقال: قدر الله ذلك، فقال عمر اضربوه ثلاثين سوطاً، ثم اقطعوا يده، فقيل له: ولم فعلت به ذلك؟ فقال: يقطع لسرقته ويضرب لكذبه على الله تعالى، منوّهاً إلى أنَّ السارق هنا سرق بإرادته واختياره، ثمَّ احتج بالقدر، ولذلك استحق هذه العقوبة.
وأكَّد السُّوسي على أنَّه ينبغي أن يدرك الجميع بأنَّ هناك دائرة أخرى في حياة الإنسان ليس له دخل بها وهي الأفعال التي تحدث وتتم بمحض القدرة العليا والمشيئة الإلهية، وهي نافذة في الناس طوعاً أو كرهاً، كحركة القلب وعضلاته.. والمعدة وعضلاتها.. وخلقة الإنسان وشكله وطوله وقصره وجماله وقبحه وحياته وموته وصحته ومرضه.