سئل سعيد بن جبير: ما الإسراف في المال ؟ قال : (أن يرزقك الله مالاً حلالاً فتنفقه في حرام حرَّمه عليك).. إنَّها نعمة المال التي هي عصبُ الحياة اليوم، حيث جعلها الله سبحانه قياماً لمصالح العباد، فكلُّ عمل أو مشروع يقتضي مالاً، وعليه فإنَّ الإنسان يسعى إلى تحصيله، فمن طبعه أنَّه إذا حصَّل وادياً من ذهب ابتغى لهذا الوادي وادياً ثانياً .. ولا شك أنَّ تحصيل المال من مصادر شرعية وإنفاقه في طرق حلال هو المطلوب، فنعم المال الصَّالح للرَّجل الصَّالح، ومن ثمّة كان فضل الغني الشاكر على الفقير الصَّابر واضحاً جليّاً، كما ذكر علماؤنا، وكان من وصية قيس بن عاصم لبنيه حين حضرته الوفاة: (يا بني عليكم بالمال واصطناعه، فإنَّ فيه منبهة للكريم ويستغنى به عن اللئيم).
نعمة المال ..
إنَّها نعمة المال التي سيسأل الإنسان يوم القيامة عن مصدر اكتسابها ومصدر إنفاقها، ففي الحديث الصَّحيح قوله صلَّى الله عليه وسلّم: ((لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس؛ عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟، وماذا عمل فيما علم)). (سنن الترمذي).
(يا بني عليكم بالمال واصطناعه، فإنَّ فيه منبهة للكريم ويستغنى به عن اللئيم).
وسواء كثرت هذه النعمة أو قلَّت عند الإنسان في الدنيا، فلن تقدّم له شيئاً في الآخرة، ولن تنفعه، قال الله تعالى: { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } (الشعراء:88-89). وأكَّد المولى سبحانه أنَّ هذه النعمة لن تقرّب صاحبها منه إلاَّ بمؤهلات أبرزها الإيمان والعمل الصالح، فقال: { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ }. (سبأ:37).
إضاعة المال ..
وقد نهانا الرّسول عليه الصَّلاة والسَّلام عن إضاعة المال وصرفه في غير وجه حق؛ كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة أن اكتب إلي بشيء سمعته من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلّم، فكتب إليه: سمعت النبيَّ صلَّى الله عليه وسلّم يقول: ((إنَّ الله كره لكم ثلاثاً؛ قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)). (صحيح البخاري)، قال شرَّاح الحديث: (إضاعة المال) بإنفاقه في المعاصي أو الإسراف فيه في المباحات.
فإذا كان الإسراف في الأكل والشرب ممنوعاً وجب أن يكون الإسراف في الإنفاق ممنوعاً
قال ابن دقيق العيد في ( إحكام الأحكام): (و أمَّا إضاعة المال فحقيقته المتفق عليها بذله في غير مصلحة دينية أو دنيوية، و ذلك ممنوع لأنَّ الله تعالى جعل الأموال قياماً لمصالح العباد و في تبذيرها تفويت لتلك المصالح إمَّا في حق مضيّعها أو في حق غيره. وأمَّا بذله و كثرة إنفاقه في تحصيل مصالح الأخرى، فلا يمتنع من حيث هو، وقد قالوا: لا سَرَفَ في الخير . وأمَّا إنفاقه في مصالح الدنيا وملاذ النفس على وجه لا يليق بحال المنفق و قدر ماله، ففي كونه سفها خلاف، والمشهور أنَّه سَفَهٌ).
ومن صفات عباد الرّحمن أنهم {إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}. (الفرقان :67)، فاشتملت هذه الآية على الأمر بالاقتصاد والنهي عن الإسراف، وذلك موافق للنهي عن الإسراف في الأكل والشرب، لأنَّ الله عزّ وجل يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. (الأعراف:31). يقول الإمام البيهقي في شعب الإيمان : (فإذا كان الإسراف في الأكل والشرب ممنوعاً وجب أن يكون الإسراف في الإنفاق ممنوعاً، لأنَّ ذلك إنَّما يكون بصرف المال في أكثر ممَّا يحتاج إليه من المأكول والمشروب وذلك الأكثر ممنوع من أكله فينبغي أن يكون صرف المال في الممنوع ممنوعاً).