الترشح للمنصب .. بين عرض الدنيا وتحمّل المسؤولية

الرئيسية » بصائر الفكر » الترشح للمنصب .. بين عرض الدنيا وتحمّل المسؤولية
alt

كثيراً ما يثار الجدل والنزاع بين الملتزمين عموماً، وأفراد الحركة الإسلامية خصوصاً، حول مدى جواز تزكية المرء لنفسه وتقدّمه للترشح لمنصب معين، سواء أكان منصباً داخلياً داخل الأطر التنظيمية، أو منصباً عاماً في الدولة أو مؤسساتها.

وحينما يكثر النقاش والجدال، يصل البعض إلى نتيجة مفادها، أنَّ من يرشح نفسه، ويزكيها، يعدُّ طالباً للدنيا، يبتغي السمعة والشهرة وتولي المنصب، وأنَّه باع آخرته لأجل الدنيا وزينتها، ونسي ما تربّى عليه وضحى بكل مبادئه لأجل المنصب والمكانة.

والحقيقة الواضحة، أنَّه ليس كل من يرشح نفسه، يريد عرضاً من الحياة الدنيا، بل ربما يكون على قدر من المسؤولية التي تؤهله إلى تجاوز مشاكل معينة تواجهها الدولة، أو الحركة الإسلامية، أو غيرها من الأمور.

وفي الوقت نفسه، فإنَّه ممَّا لا شك فيه، أنَّ مدح الإنسان لنفسه، حال رغبته بتولي المنصب فقط، يجلب نتائج سلبية على المجتمع عموماً والحركات الإسلامية خصوصاً، ويجعل النفوس متعلقة بالوصول إلى تولي المناصب، مما يؤدي به إلى عدم القيام بالواجبات والأمانة التي كلف بها، الأمر الذي ينمي المشاكل ويعقّدها ولا يخفف منها أو يحلها.

مدح الإنسان لنفسه، حال رغبته بتولي المنصب فقط، يجلب نتائج سلبية على المجتمع عموماً والحركات الإسلامية خصوصاً، ويجعل النفوس متعلقة بالوصول إلى تولي المناصب، مما يؤدي به إلى عدم القيام بالأمانة التي كلف بها

ولأجل  طلاَّب المناصب جاءت الأحاديث النبوية الشريفة تنهى عن طلب الإمارة؛ لما فيها من أمانة ومسؤوليات، ومن هذه النصوص:

1- قوله صلّى الله عليه وسلّم: (إنا لا نولّي هذا مَنْ سأله ولا من حرص عليه) "متفق عليه".

2- وقوله صلَّى الله عليه وسلّم: (يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها) "متفق عليه".

3- وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة) (رواه البخاري).

والنهي لا يقتصر على طلب الإمارة فقط، بل يستفاد منه عموم المناصب والولايات، قال ابن حجر رحمه الله: "ويستفاد منه أن طلب ما يتعلق بالحكم مكروه فيدخل في الإمارة القضاء والحسبة ونحو ذلك وأن من حرص على ذلك لا يعان". ( فتح الباري، ج13، ص124).

قصة يوسف عليه السَّلام

لكن الأحاديث السَّابقة لا تعني أنَّ الطلب يكون محرّماً لذاته، وإنّما يكون محرّماً لأمور ومباحاً لأخرى، ففي مقابل النهي، هناك صورة مضيئة، تتمثل بموقف نبي الله يوسف –عليه السَّلام- حينما رشح وزكى نفسه، لتولي منصب يشابه وزارة المالية في عصرنا الحالي، فقد قال الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام، {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف : 55].

فيوسف عليه السَّلام، حينما ثبتت حكمته في تفسير رؤيا الملك، طلب منه أن يعينه في أيّ أمر من أمور الحكم، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54].

ولهذا نجد أن يوسف عليه السلام طلب من الملك –الذي لم يكن مؤمناً بالله- أن يوليه على منصب مهم وحساس في الدولة، ووصف نفسه بأنه حفيظ عليم، وهي تزكية للنفس بلا شك، فدل تصرفه عليه السَّلام على جواز الطلب لمن يثق في نفسه من أن يقوم بالعبء كما هو مطلوب شرعاً.

ليس كل من يرشح نفسه، يريد عرضاً من الحياة الدنيا، بل ربما يكون على قدر من المسؤولية التي تؤهله إلى تجاوز مشاكل معينة تواجهها الدولة، أو الحركة الإسلامية

والنتيجة السَّابقة، قد نصَّ عليها الكثير من المفسرين خلال تفسيرهم للآية الكريمة، ومن الأمثلة على ذلك:

  • تقال الجصَّاص: "وفي هذا دلالة على أنَّه جائز للإنسان أن يصف نفسه بالفضل عند من لا يعرفه وإنه ليس من المحظور تزكية النفس" (أحكام القرآن، ج4، ص389).
  • وقال القرطبي: "ودلَّت الآية أيضاً على جواز أن يخطب الإنسان عملاً يكون أهلا له.. ولو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء والحسبة ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه لتعين ذلك عليه، ووجب أن يتولاها ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك" (الجامع لأحكام القرآن، ج11، ص385).
  • وقال ابن عاشور: "وهذه الآية أصل لوجوب عرض المرء نفسه لولاية عمل من أمور الأمة إذا علم أنه لا يصلح له غيره. لأن ذلك من النصح للأمة وخاصة إذا لم يكن ممن يتهم على إيثار منفعة نفسه على مصلحة الأمة" (التحرير والتنوير ج13، ص9).

ويعلِّق الإمام الشعراوي رحمه الله في تفسيره على ما تقدم فيقول: "وهذا القول تأكيد لثقة يوسف أنَّ القادم في هذا البلد يحتاج لحكمة إدارة، لا تبعثر ما سوف يأتي في سنين الخصب؛ لتضمن الاطمئنان في سنين الشدة، وتلك مهمة تتطلب الحفظ والعلم. وقد تقدم ما يثبت أن هاتين الصفتين يتحلَّى بهما يوسف عليه السلام.

وقد يقول قائل: أليس في قول يوسف شبهة طلب الولاية؟ والقاعدة تقول: إن طالب الولاية لا يولَّى، إلاَّ أنَّ يوسف عليه السَّلام لم يطلب ولاية، وإنما طلب الإصلاح ليتخذ من إصلاحه سبيلاً لدعوته وتحقيقاً لرسالته، حيث أنه كان آمراً فيستجاب، ولم يكن مأموراً للإيجاب حيث أنه كان واثقاً بالإيمان ومؤمناً بوثوق.

وقد تأتي ظروف لا تحتمل التجربة مع الناس، فمن يثق بنفسه أنه قادر على القيام بالمهمة فله أن يعرض نفسه.
ومثال ذلك: لنفترض أن قوماً قد ركبوا سفينة؛ ثم هاجتْ الرياح وهبَّتْ العاصفة؛ وتعقَّدت الأمور؛ وارتبك القبطان، وجاءه مَنْ يخبره أنه قادر على أن يحل له هذا الأمر، ويُحسن إدارة قيادة المركب، وسبق للقبطان أن علم عنه ذلك. هنا يجب على القبطان أن يسمح لهذا الخبير بقيادة السفينة؛ وبعد أن ينتهي الموقف؛ على القبطان أن يُوجِّه الشكر لهذا الخبير؛ ويعود لقيادة السفينة.

إذن: فمن حقِّ الإنسان أن يطلب الولاية إذا تعيَّن عليه ذلك، بأن يرى أمراً يتعرض له غير ذي خبرة يُفسد هذا الأمر، وهو يعلم وَجْه الصلاح فيه. وهنا يكون التدخل فرض عين من أجل إنقاذ المجتمع.
وفي مثل هذه الحالة نجد مَنْ طلب الولاية وهو يملك شجاعتين:
الشجاعة الأولى: أنه طلب الولاية لنفسه؛ لثقته في إنجاح المهمَّة.
والشجاعة الثانية: إنَّه حجب من ليس له خبرة أن يتولّى منصباً لا يعلم إدارته، وبهذا يصير الباطل متصرفاً.
وبذلك يُظهر وَجْه الحق؛ ويُزيل سيطرة الباطل".

ولهذا وفي ظلال تصرف يوسف عليه الَّسلام في الحفاظ على مصلحة الأمَّة، وفي ضوء ما قاله المفسّرون، نجد أنَّ ترشيح النفس ليس حراماً طالما توفرت في المرشح الشروط التالية:

1- أن يكون أميناً قادراً على تحمّل عبء مسؤولية ما رشح نفسه لأجله.
2- أن لا يكون الوصول للمنصب هو أقصى ما يتمناه ويبتغيه.
3- أن يغلب على ظنه أنَّ وصوله للمنصب سيؤدّي إلى تحقيق الإصلاح والتطوير والتغيير المحمود، ممَّا يعني جلب المصالح وتحقيق التطور والرقي سواء أكان على مستوى الدولة، أم على مستوى الحركة الإسلامية.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب فلسطيني، حاصل على الدكتوراه في الفقه وأصوله، متخصص في موضوع السياسة الشرعية والتربية والتعليم.

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …