إنَّ يقين المؤمن بالله يجعله يحيا في عالم مختلف؛ في سعادة تجعل روحه معلقة في السماء، فيلقى بجسده ما يلقى، ويبقى القلب مطمئناً واثقاً بفرج من عند الله.. فيبدله الله خيراً ممَّا أخذ منه ويكسبه عزَّة تجعله مختلفاً عن الآخرين...
بهذا القلب المؤمن الصَّادق وبهذه الرُّوح هاجرت أم حبيبة.. بعد أن لقيت ما لقيت من أذى قومها.. فهجرت أهلها ووطنها وديارها...كل ذلك لتحيا حياة الإيمان والإسلام...بعيداً عن الشرك والمشركين؛ إنَّها رملة بنت أبي سفيان بن حرب المعروفة بأم حبيبة، ولدت قبل البعثة بسبعة عشر عاماً وروت أحاديث كثيرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
وكان لأم المؤمنين ( أم حبيبة ) مكانة عالية وحرمة فائقه. وقلب صابر وروح مؤمنة.. فبعد هجرتها إلى الحبشة واستقرارها وزوجها عبيد الله بن جحش فاجأتها محنة شديدة وعصيبة تلك المحنة هي ردَّة زوجها عن الاسلام وتنصره بعد أن هداه الله وما أعظمها من محنة ترى الناس يدخلون في دين الله ومنهم النجاشي ملك الحبشة وترى زوجها الذي هاجر معها من أجل إسلامه..يترك إسلامه ويدخل في دين أهله يتركونه ويسلمون!!
ترى ذلك وهي في ديار غربة بعيدة عن وطنها وأهلها.. ولكنَّها بقيت مؤمنة بالله ويقينها يحدثها بأنَّ الله معك ..
بقيت صابرة محتسبة وبعد وفاة زوجها على الشرك وانقضاء عدتها أتاها رسول من النجاشي يستأذنها بأنَّ الملك يقول لك: وكلي من يزوجك. فوكلت خالد بن سعيد بن العاص. وخطب النجاشي أمام المسلمين، فحمد الله وأثنى عليه وتشهد، ثمَّ قال: أمَّا بعد، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليَّ أنَّ أزوّجه أم حبيبة، فأجبت وقد أصدقتها عنه أربعمائة دينار. وتمَّ زواجها من رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم، فأبدلها الله بعد هجرة ومحنة بزواج وعزة .
ولما بلغ أبو سفيان أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم نكح ابنته قال: ( هو الفحل لا يجدع أنفه)) أي إنَّه الكريم الذي لا يعاب ولا يرد.
ثمَّ عادت المهاجرة الصَّابرة المؤمنة والزوجة الطاهرة الكريمة عقب فتح خيبر..وما إن وصلت إلى المدينة بعد تلك الغربة الطويلة والعزوبة المريرة..حتى استقبلها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالسرور والبهجة، وأنزلها إحدى حجراته بجوار زوجاته..فما أعظمه من جزاء لمن اختارت طريق الهجرة الى الله.. لمن صبرت وآمنت حق الإيمان...
ولكنَّها لقيت موقفاً آخر صعباً شديداً..حين اقترب فتح مكة، فكان انتصار المؤمنين يعني القضاء على أبيها وقومها وعشيرتها، ولكنَّها لم ترهم أغلى عليها من المسلمين؛ وهي التي هجرت أهلها وقومها وهاجرت ثلاثة عشر عاماً في الحبشة فراراً بدينها. نموذجاً رفيعاً لكل مسلمة...نموذجاً لمن هجرت دنياها واختارت أخرتها..لمن قدَّمت دينها على كلِّ ملذات الدنيا..لمن حملت قلباً صابراً مؤمناً واثقاً بالله وحده..
فعندما أتى أبو سفيان إلى المدينة ليمد في أجل الهدنة التي تمَّ المصالحة عليها في صلح الحديبية أبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورد طلبه، فأراد أن يستعين بابنته ( أم حبيبة) لتحقيق مراده، ففوجئت به يدخل بيتها فلاقته بالحيرة لا تدري أترده لكونه مشركاً أم تستقبله لكونه أباً!!!
وأدرك هو ما تعانيه ابنته، فأعفاها من أن تأذن له بالجلوس وتقدم من تلقاء نفسه ليجلس على فراش الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم.. فما راعه إلاَّ وابنته تجذب الفراش لئلا يجلس عليه.. فسألها بدهشة فقال: (( يابنية! أرغبت بهذا الفراش عني؟ أم بي عنه؟؟))
فقالت أم حبيبة: بل هو فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم!! وأنت امرؤ نجس مشرك! فقال : يا بنية لقد أصابك بعدي شر.. وخرج من بيتها خائب الرجاء.
هكذا كانت لم يتعلق قلبها بالدنيا وملذاتها ولا بأهلها، بل صدقت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحبّ إليها من أبيها واهلها والناس أجمعين.. فأثابها الله بأن أسلم والدها بعد فتح مكة فتمت فرحتها بنجاة والدها من الخلود في النار..
عاشت بهذا القلب فعملت بما به من إيمان فكانت ثابتة صادقة ومحبة لكلّ من حولها حتى لضرائرها!!
فقبل وفاتها أرسلت لعائشة رضي الله عنها، كما روى سعد عن عائشة رضي الله عنها قالت: دعتني أم حبيبة عند موتها، فقالت:قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فلتحلليني من ذلك فحللتها، واستغفرت لها، فقالت لي: سررتني بذلك سرك الله.
وأرسلت بمثل ذلك إلى باقي ضرائرها.
وتوفيت رضي الله عنها سنة أربع وأربعين، ودفنت بالبقيع.
هكذا كانت أم المؤمنين ( أم حبيبة ) نموذجاً رفيعاً لكل مسلمة...نموذجاً لمن هجرت دنياها واختارت أخرتها..لمن قدَّمت دينها على كلِّ ملذات الدنيا..لمن حملت قلباً صابراً مؤمناً واثقاً بالله وحده..
المراجع:
الإصابة - ابن حجر.
سير أعلام النبلاء – الذهبي.
السيرة النبوية - ابن هشام.
صور من حياة صحابيات رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم - خالد عبد الرحمن العك.