أيُّ حديث عن التربية أو المنهج التربوي للسيرة النبوية، وهو يتناول جيل بدر، لا بد أن يتحدَّث بإسهاب عن سورة البقرة.. هذه السورة تضمّ عدَّة موضوعات.. فهي من ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدَّعوة الإسلامية في المدينة، واستقبالهم لها، ومواجهتهم لرسولها صلَّى الله عليه وسلم، وللجامعة الناشئة على أساسها.
ومن ناحية أخرى؛ تدور حول موقف الجماعة المسلمة في أول نشأتها وإعدادها لحمل أمانة الدَّعوة والخلافة في الأرض.
وكانت السَّعادة الفائقة، واليقين الخالص، والطمأنينة الكاملة، والسكينة الغامرة لجيل بدر حين سمع الله عزّ وجل يوحي إلى نبيه تاريخ اليهود، فها هو ملف يهود يفتح في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بكل ما يحويه من فضائح عنهم بجوار بعض إيجابياتهم {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}.(آل عمران:110).
وسواء كانت هذه الفضائح أتت متتالية في وقت واحد، أو تنزلت على فترات متقطعة، لكنَّها أنهت أسطورة التفوق اليهودي، وأسطورة شعب الله المختار، وأسطورة النطق باسم الله، وادّعاء أنهم حزبه وجنده، ولم يعد في ذهن أي فرد من هذا الجيل الرَّائد أي لبس أو شك في دجل هذا الفريق الضال، وكذبه على الله وعلى رسله، وأصبحوا ساقطين يحملون كل تاريخ الكفر والضلال والعداء للأنبياء.
هذا الجانب الأول من التربية الذي تم من خلال هذه الآيات البيّنات، فقد فضح العدو فضحاً كاملاً وتوحدت قناعات، بالنسبة لهذا العدو؛ بحيث أصبح كل صحابي يملك من القوَّة الفكرية والعلمية، ما يرد به على ادعاءات اليهود، ويفند كذبهم وجدلهم، ويفضح تاريخهم.
أمَّا الجانب الثاني: فهو وحدة الثقافة ووحدة التربية، وهو الصبغة الجديدة للتربية العامة من خلال المسجد بعد أن قامت دولة الإسلام، فالجميع يلتقون في هذا المسجد الجامع أو الجامعة.. والجميع يحضرون الصلاة جماعة فيها لا يتخلف عنها إلاَّ منافق مغموص النفاق.. والجميع يستمعون إلى آيات الله تتلى عليهم، فتنسكب في قلوبهم، وتزيدهم إيماناً إلى إيمانهم، وهدى إلى هداهم، وتقوى إلى تقواهم.
إنَّ هذه الآيات في الحقيقية تمثل دورة تدريبية كاملة، عرض فيها تاريخ أمة كاملة انبثقت بين يدي نبي، ومن كتاب مثّل هذه الأمة
والجانب الثالث: وهو الجانب الأهم الذي تعلمه هذا الجيل القائد من هذه الآيات، أنَّ الله تعالى لا يحابي أحداً من خلقه، فالله تعالى الذي اصطفى بني إسرائيل على العالمين، وبعث فيهم رسولاً منهم، وجعله كليمه، وأعطاه من المعجزات الباهرات ما قهر به عدوه وأغرقه، ومكّن لقومه في الأرض، الله تعالى الذي أعطى هذه المعجزات الخالدات بالعصا تلقف ما يأفكون، وبالعصا يضرب موسى بها البحر فيغدو يبساً لجيشه، وبالعصا يضرب فيغدو غرقاً لعدوه، أقول: رغم كل هذه المعجزات وموسى كليم الله بين ظهرانيهم، حين عصوا وحين كفروا، وحين اتخذوا العجل، وحين قالوا: أرنا الله جهرة، وحين بدلوا كلام الله، وقالوا: حبة في شعرة، حين فعلوا ذلك، لم يعفهم وجود نبيهم بينهم من العقوبة، فحكم عليهم بقتل أنفسهم، وأخذتهم الصاعقة بين يدي نبيهم، فما الذي يمنع من عذاب الله وسخطه وعقوبته لو تخلى هذا الجيل عن مسؤوليته، ونكث في بيعته، وعصى أوامر ربّه؟
إنَّ هذه الآيات في الحقيقية تمثل دورة تدريبية كاملة، عرض فيها تاريخ أمة كاملة انبثقت بين يدي نبي، ومن كتاب مثّل هذه الأمة، والله تعالى هو الذي يعرض فيها على لسان نبيه نقاط القوة ونقاط الضعف بشكل متسلسل متكامل يتعلم فيها هذا الجيل المسلم من هو عدوه، ويتعلم كيف يتجنب عثرات عدوه، إنَّ القادة العسكريين والسياسيين يدرسون دائماً تجارب من قبلهم دراسة فاحصة؛ ليتعرفوا من خلالها على عوامل النصر، وعوامل الهزيمة، ويدرسون نفسيات أعدائهم، وطبائعهم فيتعاملون من خلالها معهم، وكلما كانت القيادات أعمق تجربة، وأوسع إطلاعاً، وأرحب أفقاً كلما كانت قادرة على تحقيق النصر، وتجنّب الهزيمة، والقدرة على المحافظة على النصر.
وهذا الجيل القائد من المهاجرين والأنصار، والذي كان يعد ليقود البشرية كلها، هاهو الآن يخضع لهذه الدورة الطويلة الأمد التي بلغت قرابة سنة ونصف يتعرف من خلالها على تاريخ اليهود وطبائع اليهود، وخلق اليهود، كما يتعرَّف على عوامل نصرهم وعوامل هزيمتهم، وعوامل عون الله لهم، وسنن نصر الله لهم، وسنن إخفاقهم وسنن هزيمتهم، وسنن خذلان الله لهم، وتخلي الله عنهم، بحيث يأخذ كل درس مداه في تفصيلات لاحقة وردت في سورة آل عمران والنساء والمائدة، والأعراف وغيرها؛ بحيث تؤخذ كل خطيئة على حدة فتعرض في تفصيلاتها، ويتم التركيز على الجوانب الرَّئيسية فيها من خلال هذا التفصيل، علماً أنَّ المعركة الآن هي مع المشركين في مكة، أمَّا اليهود فالموادعة معهم قائمة، والسلم معهم قائم، وهم مشاركون في المجتمع الإسلامي، ومقر ومعترف بوجودهم فيه حسب ما نصت عليه وثيقة المدينة الأولى.
فالبدار البدار إلى الله قبل أن نستحق الهلاك كما استحقته يهود،وما علوها اليوم إلا علو الفساد الذي يعقبه الدمار على يد طلائع الإيمان
هذا من الجانب النظري، أمَّا من الجانب العملي؛ فالنموذج الحي السيّئ بين ظهرانيهم، يرونه كل يوم يلتقون معه، ويتحاورون معه، ويناظرونه، ويرون بأم أعينهم ختله، ودجله، وزيفه، ويشهدون مؤامراته، وافتراءاته، وادعاءاته وكيده.. إلاَّ من رحم الله منهم، وقليل ما هم.
أفلا نخشى أن تنتزع منا هذه الرِّسالة حين يكثر الخبث ويصبح سمة الأمَّة؟ كما قال عليه الصَّلاة والسَّلام لأم سلمة، وقد سألته: يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال: ((نعم، إذا كثر الخبث)). (صحيح البخاري).
فالبدار البدار إلى الله قبل أن نستحق الهلاك كما استحقته يهود،وما علوها اليوم إلا علو الفساد الذي يعقبه الدمار على يد طلائع الإيمان (لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا . عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا). (الإسراء: 7- 8).
المصدر: مجلة المنار، العدد 86، رمضان 1425هـ.