يتعرَّض مشروع النهضة الذي تحمله برامج الأحزاب والحركات الإسلاميَّة التي تولّت قيادة العديد من المجتمعات والبلدان العربيَّة في مرحلة ما بعد ربيع الثورات العربيَّة التي أطاحت بالعديد من أساسات التخلف والفساد والاستبداد القائمة بين ظهرانينا، للعديد من التحديات، والتي تأتي من الداخل بالأساس، في ظل عدم نجاح الثورات الشعبيَّة العربيَّة في القضاء الكامل على جذور الاستبداد والاستعباد التي غرستها أنظمة الفساد السابقة.
ومن بين أبرز الأسئلة التي يعرضها مشروع النهضة الحالي الذي تعرضه قوى الإسلاميَّة الصَّاعدة، هو ما العمل في ظل ظروف التراجع والانكسار التي تحياها الأمَّة منذ انهيار الخلافة الإسلاميَّة في الربع الأول من القرن العشرين ؟
وفي حقيقة الأمر، فإنَّ ظروف التخلف هذه هي التي تؤسس لبيئة النهضة، وهو قانون آخر من قوانين الخلق الإلهي؛ حيث تظهر فئة من أبناء الأمة أنعم الله تعالى عليها بنعمة الفهم للواقع القائم، والرغبة والقدرة على تغييره، فتبدأ في دراسة الموقف والتحرك بناء على المعطيات القائمة، لبدء حراك من نوع ما، قد يكون سياسيًّا أو اجتماعيًّا أو فكريًّا وثقافيًّا، أو شاملاً لكل هذا، من أجل استرجاع خير أمة.
ولا يظن أحدٌ أنَّ ما يجري من سنن التدافع الراهنة التي تقف في وجه الربيع العربي ومشروع الصَّحوة الإسلامي وركائز النهضة التي يحملها تخرج عن القوانين والنواميس الإلهيَّة للخلق، ولعلَّ أهم ما يعرضه هذا الكلام هو أنَّ الواقع الراهن الذي يواجهه مشروع النهضة الإسلامي، يعرض على كل مسلم مخلص مسؤوليَّة القيام بما هو واجب عليه في هذا الصَّدد.
الواقع الراهن الذي يواجهه مشروع النهضة الإسلامي، يعرض على كل مسلم مخلص مسؤوليَّة القيام بما هو واجب عليه في هذا الصَّدد.
فبعض المراد الإلهي من هذه السُّنَن التي فرضها علينا، وشاءتها إرادة الله عزّ وجل، هو رؤيتنا كيف نتصرف في مواجهة ما يواجهه المشروع النهضوي الإسلامي من تحديات، وهل سوف نتقاعس أم سوف نقوم بما يجب على المسلم المؤمن الحق القيام به ؟
ونسترجع في هذا الإطار ما قام به الأولون في عهد النبوَّة، من صحابة الرسول الكريم محمَّد "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، رضوان الله تعالى عليهم جميعًا؛ حيث إن التربية الأخلاقيَّة التي قام بها الرسول "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" لهم، قد جعلت من كل منهم ركيزة تكفي لإنهاض أمة بأسرها، ولذلك كانت دولة الإسلام في المشرق والمغرب فيما لا يزيد على ثلاثة عقود من وفاة الرَّسول "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وهو ما يقودنا إلى التأكيد على ضرورة البعد الشعبي عند الحديث عن قضية التنمية والنهضة؛ فالأنبياء وحدهم لا يصنعون مجد الرِّسالة؛ وإنَّما الأتباع المخلصون المؤمنون هم الذين يقومون بالعمل الصعب الذي يواجه الرسالة.
وفي هذا، فإنَّه من بين ما يؤخذ على الكثير من المدارس النهضويَّة التي ظهرت في عالمنا العربي والإسلامي، أنَّها بقيَت حبيسة صفوة سياسيَّة وجماعات المثقفين، وذات طبيعة مثاليَّة، لم تنزل إلى أرض الواقع، وتضع في اعتبارها الجماهير وحاجاتها، وكذلك قدرتها على الفعل، ولذلك لم تحقق هذه المشروعات النهضويَّة النخبويَّة أي نجاح.
في المقابل، حقَّقت التجارب التي ارتبطت بالشعوب، مثل محمّد علي باشا الكبير في مصر، أو في حالة الحركات الإسلاميَّة التي تتبنى خطابًا شعبيًّا يؤمنُ أنَّ الحلَّ في الجماهير وفي إصلاحها، نجاحات كبيرة في وقت وجيز، برغم التحديات التي واجهتها، والتي وصلت إلى درجة الحرب المباشرة، بكل ما تعنيه كلمة حرب، من قتل وتشريد وتدمير، ولعلَّ في تجربة الإخوان المسلمين في مصر، في محن أواخر الأربعينيات ومنتصف الخمسينيات والستينيات، ما يوضِّح ذلك تمامًا.
ومن بين أبرز هذه التحديات أيضًا قضيَّة التنمية الشاملة المُستقلة، وضمان العدالة الاجتماعيَّة واستقلال القرار الاقتصادي؛ لأنَّ هذه الأمور هي التي تضمن للأوطان وللأمَّة امتلاك عناصر القوة الشاملة، وهنا سوف تكون الحرب التي يواجهها المشروع الإسلامي النهضوي داخليَّة وخارجيَّة، وليست داخليَّة فحسب، لأنه، ووفق التجربة التاريخيَّة؛ فقد جوبهت أية مشروعات للنهضة في أوطاننا وأمتنا بحروب صريحة ومباشرة من الخارج.
يجب إدراك حقيقة مهمَّة؛ وهي أنَّ هذا الخارج لا يتحرّك من دون ظهير داخلي يعمل على أجندته نفسها، وتتوافق بينهما المصالح، ويجد الطرفان في الآخر ما يدعم به موقفه.
وهنا يجب إدراك حقيقة مهمَّة؛ وهي أنَّ هذا الخارج لا يتحرّك من دون ظهير داخلي يعمل على أجندته نفسها، وتتوافق بينهما المصالح، ويجد الطرفان في الآخر ما يدعم به موقفه.
وبالعودة إلى سؤال ما العمل، فإنَّ هذا السؤال موجّه بالأساس لكلِّ مسلم، لأنَّ حصيلة جهود كل مسلم سوف تكون هي النهضة المنشودة للأمَّة.
ويبدأ دور المسلم- أيًّا كان موقعه- بالفهم والاستيعاب لطبيعة المرحلة ومتطلباتها، ورسالته هو على المستويَيْن العام والخاص، وما هو يجب عليه تجاه نفسه ومجتمعه وأمته، ثمَّ يأتي بعد ذلك الإخلاص، إخلاص النيَّة والقلب، والذي يتبعه العمل، ثمَّ الجهاد والتضحية في سبيل مشروع نهضة الأمَّة، كما يقول الإمام الشهيد حسن البنا في أركان البيعة.
هذه الأمور مطلوبة من كل مسلم، سواء أكان قائدًا أم عاملاً أم زارعًا أم عالمًا.. فكلنا يجب علينا في هذه المرحلة أن نفهم ونخلص ثم نعمل ونجاهد ونضحي بكل ما نملك، وأن نثبت في مواجهة أعداء مشروع النهضة، وأن نتجرد من كل ما هو ذاتي، لصالح كل ما هو عام، مع إدراك أننا يجب أن نحافظ على مكمن قوتنا الأساسي، وهو الأخوة والانتماء لرابطة هذا الدين، والإيمان بأن رفعته هي أسمى الأهداف التي يجب أن يسعى إليها كل مسلم.
وثمَّة سؤالٍ يطرح نفسه بخلاف سؤال ما العمل الذي طرحناه من قبل، وهو هل نحن بحاجةٍ إلى صَوغِ مشروعِ نهضة جديد أم إلى إعادة بِناء مشاريع النهضة السَّابقة؟.. البعض يرى في هذا أن الأولى هو تأسيس مشروعٍ نهضوي سياسي، اقتصادي، فكري.. إلخ، يتشكل في صورة منظومة متكاملة، تجمع ما بين وشائج الماضي والحاضر، مع تصوّر جديد للمستقبل.
وفي الأخير، وقبل كل شيء، فإن منطلقات مشروع النهضة الذي تحمله الحركة الإسلاميَّة في الوقت الراهن، يجب أن ينطلق من أرضيَّة راسخة، وهي الشريعة الإسلاميَّة، نصوصًا وروحًا، توجيهات ومقاصد، وخصوصًا فيما يتعلق بإشكاليَّة الاستخلاف في الأرض، وكيف يتصوَّر المسلمون دورهم في هذا المجال، باعتبارهم خير أمة أخرجت للناس!