لقد اهتم الإسلام بصلاح المجتمع وتماسكه في أحوال الشدة و الرخاء، و شدَّد على التقوى في حال الخصومة و الابتلاء أكثر من وقت التقارب و التآلف، ذلك أنَّ إيمان المرء و حسن سلوكه يظهر في وقت المصيبة، فمن السهل أن يدّعي الناس لزوم أمر الله في الفسحة، ولكن قليلا هم الذين يصبرون نفسهم مع الله عندما تشتد الأمور و يتمحص الناس ما بين المحسن و المؤمن و المسلم و ما دون ذلك.
و من هذه الأحوال و الأوقات العصيبة الطلاق الذي هو مشكلة بحد ذاته و حلال بغيض لعلاج شرخ أسري لا لحل له إلاَّ بالكي، لذا كثر تكرار كلمة التقوى في سورة الطلاق التي تعرف بصورة النساء الصغرى، و قليل ممَّن يدعون التدين يحسن تعامله عند الطلاق، زوجاً كان أو زوجة أو من عائلة الحموين، و لعلَّ نظرة سريعة إلى إحصاءات المحاكم الشرعية و قضايا الطلاق تبيّن أنَّ قليلين من يطبقون أمر الله في قوله : " فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف" ..
و كثيراً بالمقابل ما نسمع في المجتمع عبارات من شاكلة "علقها حتّى تمل و تتنازل لك عن كل حقوقها!" أو "زيدي النفقة لك و لأولادك و جرجريه في المحاكم حتى لا يستطيع التنفس و التفكير بزوجة أخرى!" أو "احرمها من الأولاد حتى تنغص عليها عيشتها" أو " ارمي الأولاد في وجهه حتى لا يستطيع التصرف" و غيرها و غيرها من أشكال الحرب و الانتقام و الرد التي قد تستمر سنوات يأكل فيها الحقد من عمر المرء و أعصابه و عمله الصالح وحياة أسرته و أولاده و يشعل الكراهية في مجتمع أراد له رسوله صلّى الله عليه و سلّم أن يكون كالجسد الواحد و البنيان المرصوص على اختلاف أحواله .
و لقد وضع القرآن علاجاً يكفل أن يكون الطلاق ربانيا بأقل الخسائر، و سجلت السيرة عجباً عجاباً من تعالي النفوس و صفائها حتى في هذا الموطن الصعب، و أولى خطوات العلاج القرآني الصَّبر الجميل، و يدخل فيه صبر الاستعانة، و ذلك في قوله تعالى: "فصبر جميل و الله المستعان على ما تصفون".
و الصَّبر يذكر بثمرة الصبار و شوكها المؤلم و لكن داخلها الماء و الرطوبة، و هو حال من يصبر مع الله و يتحمّل زوجته أو تتحمل زوجها إخلاصا لله و حفاظا على الأسرة وخواطر العيال قد يتعبون كثيراً و لكن الاستعانة بالله و الدعاء المستمر و الإحسان المطرد لا بد أن يغير الأحوال و الأخلاق و يذيب قسوة القلوب، و لقد نبَّه الرَّسول إلى ضرورة التقوى مع النساء فقال : "اتقوا الله في النساء...أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله" والتقوى عمل قلبي لا يطلع عليها الا الله و سقفها السماء و يتبع لها كل حُسن وكرم و خير، و يذكّر الاسلام الرجل بسابق عهوده لزوجته في مرحلة ما قبل المشاكل ووعوده بالحب و الرعاية و الحياة الهانئة إذ قال المصطفى : "أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج" ..
و قد فسَّر ابن عبَّاس معاملة المرأة بالمعروف حسب الخطاب القرآني فقال : "و ليس المعروف أن تمتنع عن أذاها و لكن المعروف أن تحتمل الأذى منها". و هذا ما يقتضيه خلق الصبر الذي يتحمّل سوء الخلق و تغير المزاج و النشوز و غيرها، و ما نظن أنَّ الرجل أعطي القوامة إلاَّ و هذه أحد أسبابها من ضبط النفس و الاحتكام إلى العقل في مقابل طغيان العاطفة على المرأة التي وصفت في الحديث : "يرزقها الله زوجاً ويرزقها ولداً فتغضب الغضبة ...فتقول ما رأيت منك خيراً قط "..
إنَّ الصَّبر يقتضي من الرجل أن يفهم زوجته و لغتها و تغيّر أحوالها النفسية، فالمرأة عندما تغضب للقليل و الكثير، قد يكفيها و يسكتها و يردّها إلى الصَّواب كلمة طيبة و ضمة حنونة لتتحمل صعوبة الأوضاع و عسر الدنيا، فالمرأة كما يقول علماء النفس المحدثون تحب و تكره و ترضى و تغضب بأذنيها، و الرَّجل كذلك له مفاتيح أخبرت الأعرابية ابنتها عنها ليلة زفافها فقالت : "احفظي له خصالا عشرا يكن لك ذخرا ".
أمَّا الأولى والثانية، فالخشوع له بالقناعة وحسن السمع له والطاعة.
وأمَّا الثالثة والرابعة، فالتفقد لموقع عينيه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلاَّ أطيب ريح .
أما الخامسة والسَّادسة، فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإنَّ تواتر الجوع ملهبة وتنغيص النوم مغضبة.
وأمَّا السابعة والثامنة، فالاحتراس بماله والإرعاء على حشمه وعياله.
أمَّا التاسعة والعاشرة فلا تعصين له أمراً ولا تفشين له سرّاً، فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره وإن أفشيت سره لن تأمني غدره، ثمَّ إيَّاك والفرح بين يديه إن كان مهتما والكآبة بين يديه إن كان فرحا ".
و الذين يتهمون الاسلام بالغلظة و الرجعية في تقويم العلاقة الزوجية و التعامل مع المشاكل و يحتجون بالآية التي ورد فيها لفظ الضرب في معالجة النشوز في قوله تعالى : {و اللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن و اهجروهن في المضاجع و اضربوهن} و يتناسون طرق الاصلاح الأولى و يقفزون لآخرها لم ينظروا إلى سيرة الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم الذي ورد عنه أنه لم يضرب غلاماً و لا خادماً و لا امرأة قط، و لكن التشريع يوضع حتى في أقصى درجاته لمعالجة كافة الأحوال البشرية، فمن البشر من تصلحه الكلمة و الإشارة، ومنهم من لا يفهم كالعبيد الا بالعصى!
و أمَّا الخطوة الثانية عندما لا ينفع الصَّبر الجميل تكون بالهجر الجميل، و الهجر كلمة وممارسة ثقيلة، فالإنسان سمّي إنسانا لأنَّه يأنس بالناس، و لذا فالهجر قاس على نفسه، والهجر مرحلة من مراحل الانفصال الزوجي، و لكن الإسلام قننها بوقت زمني محدد وجعلها ثلاثة أيام بين الأصحاب و الإخوة حتى تبقى جذوة المحبة و المودة مشتعلة، فكيف إذن تكون بين الأزواج؟
أي ينبغي أن لا يبغضها لأنه ان وجد منها خلقا يكرهه وجد منها خلقا مرضيا كأن تكون شرسة الخلق لكنها دينة-أي ذات دين جيد- أو انها جميلة أو عفيفة أو رفيقة به أو نحو ذلك
هي حال الرَّسول صلى الله عليه و سلم الذي نهى عن المغالاة في الهجر و ترك البيت و التقبيح، و حال علي بن أبي طالب عندما غضب من السيدة فاطمة الزهراء فما زاد على أن نام ظهيرة في المسجد فجاءه الرسول فأصلح بينهما، و بقي حب فاطمة في قلبه ثابت و يزيد و هو الذي أنشد فيها شعرا:
و بنت محمد سكني و عرسي مشوب لحمها بدمي و لحمي
و أمَّا ثالث خطوات العلاج، فبالصفح الجميل الذي ورد ذكره في القرآن حتى في حالة الأعداء فكيف بالأزواج، و الصَّفح الجميل يكون في حال الزلل العظيم، و من ملك نفسه في حال الغضب هو الشديد كما أثنى رسول الله، و من زاد على ذلك بحسن التجاوز فهو كريم الخلق الذي يعطي من نفسه و يتجاوز عن حقه و كرامته لأجل الله أولا و حفاظاً على الود القديم و قد قال الشافعي في مدح هؤلاء" الحر من راعى وداد لحظة" .
و الصَّفح الجميل مرتبط بالإدراك أن لا أحد يخلو من الحسنات كما في قوله تعالى: {فعسى أن تكرهوا شيئا و يجعل الله فيه خيرا كثيرا}. و قال النووي في تفسيرها : ( أي ينبغي أن لا يبغضها لأنه ان وجد منها خلقا يكرهه وجد منها خلقا مرضيا كأن تكون شرسة الخلق لكنها دينة-أي ذات دين جيد- أو انها جميلة أو عفيفة أو رفيقة به أو نحو ذلك). و قال القرطبي : " يغفر سيئاتها لحسناتها و يتغاضى عما يكره لما يحب" .
و قد ذكر الإمام أحمد عن زوجته أم صالح قال: أقامت معي أم صالح ثلاثين عاماً، فما اختلفت أنا و هي في كلمة" .
فهل هم ملائكة لا يخطئون أم بشر لا يغضبون؟! أم إنَّه التقوى و الصبر الجميل؟
الصَّبر الجميل و الهجر الجميل و الصفح الجميل، كلّها مراحل سابقة و لاحقة للطلاق، و هي اتقاء لحدوثه و وقاية من وصول المرحلة النهائية في انفكاك الرابطة الزوجية و ما يتبعها من تشتت الأسرة و ضياع الأولاد، فإن كان لا بد مما ليس منه بد مع اتباع ما سبق من أساليب العلاج القرآني، فبعدها يكون التسريح الجميل كما في قوله تعالى : "تسريح بإحسان" ، و قوله : " و سرحوهن سراحا جميلا".
و التسريح الجميل بأن لا يظلمها الزوج من حقها شيئاً، و لا يذكرها بسوء، و لا ينفر الناس منها، و كذلك تفعل الزوجة، و ما أحوجنا الى مثل هذه الأخلاق و قد انفرطت الرَّوابط إلاَّ بحق أخوة الإسلام التي تحفظ الأعراض و الأسرار و تمتنع عن الغيبة، و تلوم النفس قبل لوم الآخرين، و تصبر على المصيبة كونها من الابتلاء، و قد رُوي عن أحد الصالحين أنه أراد أن يطلق زوجته، فقيل له: ما يسؤوك منها؟ قال: العاقل لا يهتك ستره زوجته، فلما طلقها قيل له: لم طلقتها؟ قال: مالي و للكلام عن أجنبية عني؟!
و هو ذاته خلق عبد الله بن أبي بكر يوم أثنى على زوجته عاتكة بنت زيد عندما أمره أبوه بطلاقها لأنَّها غلبته على رأيه و شغلته عن سوقه، فوجد عليها عبد الله و قعد لأبيه على طريقه و هو يريد الصلاة فلمَّا أبصر أبا بكر أنشأ يقول:
و لم أر مثلي طلق اليوم مثلها و لا مثلها في غير جرم يطلق
لها خلق جزل و حلم و منصب و خلق سوي في الحياة و مصدق
فرق له أبو بكر و أمره بمراجعتها.
هذا الطلاق الجميل مع أداء الحقوق، و لكن الظلم و التعسف في الطلاق فذلك حديث آخر وعلاج آخر أوله ثقة المظلوم أن الله لا يضيع حقوق العباد و أنَّ الظلم عاقبته وخيمة في الدنيا و الآخرة.
و إذا كان الله يدعونا إلى كل هذا الإحسان و الصَّبر في الطلاق فكيف إذن يكون الإمساك و كيف تكون الحياة الزوجية؟
مثلما الطلاق بحاجة إلى صبر و جمال، كذلك استمرار الحياة الزوجية بحاجة لهما و الى تجديد النية وصدق الاستعانة بالله، و عون الله للعبد كما قال أحد الصالحين يكون بقدر نيته: "فمن خلصت نيته تم عون الله له، و من نقصت نيته نقص عنه من عون الله بقدر ذلك"
و أيّ جزاء أعظم و أجزل مثوبة من جزاء عباد الرحمن { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)}. (الفرقان).