يواجه القائمون على المشروع الإصلاحي والنهضوي الجديد من القوى والحركات الإسلاميَّة في مرحلة ما بعد الثورات العربيَّة العديد من التحديات، وتحتوي البرامج على العديد من المهام الجسام، التي تتطلب البدء في العمل عليها، من أجل إنجاز أهداف أُجِّلَتْ طويلاً.
ومن بين أهم هذه المهام، قضيَّة الوحدة الإسلاميَّة؛ فعلى الرغم من هموم الأوطان العديدة، ومتطلبات النهوض من الأوضاع التي قادت إليها ديكتاتوريات الفساد والاستبداد المجتمعات العربيَّة، من تراجع حضاري وتخلف اقتصادي وسياسي واجتماعي، وفي مختلف المجالات؛ إلاَّ أنَّ حَمَلَة المشروع النهضوي والحضاري الإسلامي في زمننا المعاصر هذا، لم يهملوا القضيَّة الرئيسة التي ظهرت لأجلها الدَّعوات الإصلاحيَّة، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، وهي إعادة توحيد شمل الأمَّة.
ويؤمن القائمون على مشروع النهضة بأنَّه في وحدة الصف والأمَّة أهم خطوة على طريق صلاح الأوطان، وأن الأمم التي ضمتها دولة الخلافة الإسلاميَّة، شهدت أزهى مراحل وعصور تقدّمها ورُقيِّها طيلة أكثر من ألف عام سادت فيها الخلافة الإسلاميَّة العالم.
يؤمن القائمون على مشروع النهضة بأنَّه في وحدة الصف والأمَّة أهم خطوة على طريق صلاح الأوطان،
فمن بين أهم شروط تحقيق النهضة والتنمية، تحقيق الاستقرار والأمن والأمان على مستوى الجبهة الداخلية للأوطان؛ لأنَّه من دون ذلك لن يكون بمقدور الجماعات البشريَّة التي تضمها هذه الأوطان أن تتفرَّغ للعمل والبناء.
ومن بين نواميس العمران البشري المتفق عليها ما بين علماء الاجتماع والعمرانيين، أنَّ الوحدة والانضمام لكيانات أكبر؛ يضمن أمن الأمم واستقرارها بما يكفل لها الممكنات اللازمة للقيام بأعباء النهضة والتنمية، كذلك تضمن عاملاً مهمًّا آخر، وهو توافر عناصر القوة الشاملة ومتطلبات النهضة والتنمية المختلفة، من خلال التكامل ما بين ما يملكه هذا الطرف أو ذاك من عناصر القوة وممكناتها.
وبأبسط منطق، فقد شاءت إرادة الله عزّ وجل أن يُخلق الإنسان وقد جُبل على العيش في جماعة، وليس في فرديَّة أو منعزلاً، وفق ما تقتضيه طبيعة البشر من العيش الجماعي المترابط، هذا على مستوى الفرد، أما على مستوى الجماعة؛ فإنَّ صيرورات العمران الإنساني فرضت أن تبحث الأمم والمجموعات الإنسانيَّة التي تجمعها صفات وعوامل مشتركة عن الوحدة حتى لا تكون فريسة للأمم الأخرى، وأن تستطيع بناء نفسها والحفاظ على بقائها.
ويصف ابن خلدون ذلك في مقدمته وديوانه، المبتدأ والخبر، الخلافة بأنَّها تأخذ شكل الهيمنة، وأنَّها تتربع على أعلى موقعٍ في سُلَّم المخلوقات، ويصف هذه الهيمنة أيضًا بأنها "هيمنة مسئولة دورها الأساسي هو المحافظة على الحياة أولاً، ثمَّ الوصول إلى أكمل صورة ممكنة لها في هذه الدنيا".
ومن بين ما أشار إليه ابن خلدون أيضًا في مقدمته في هذا الصَّدد، هو ضرورة وجود "وجهة" كأمرٍ لابد منه لكي يوجد العمران ويتحرك ويتكامل، وأنه كلما ارتقى الإنسان في تحديد وتمييز تلك الوجهة، بحيث تكون وجهةً إلى الحق؛ ازداد تكامل العمران البشري على هذه الأرض.
ويقول ناجي بن الحاج الطاهر: إنَّ ابن خلدون قسَّم العمران إلى درجات، تبدأ بالعمران البدوي الأوَّلي، وتنتهي بالعمران الحضاري الكمالي التكاملي، فإن شرط التحول والانتقال من العمران البدوي إلى ما بعده إنما هو وجود تلك "الوجهة" التي تعني الغاية والهدف والطريق الذي يحرك الإنسان في هذه الحياة.
يدرك مشروعات النهضة أهمية التكامل والوحدة من أجل إنقاذ المشروع
وتدرك المشروعات التي يقدّمها النهضويون والصحويون من أبناء المشروع الإسلامي أهميَّة هذا الركن أو هذه الوجهة، الوحدة والتكامل، من أجل إنفاذ المشروع، انطلاقًا من أنَّ الإسلام دين شامل يتضمن في تعاليمه وشرعته عوامل الوحدة بين ظهراني الأمة والأوطان، فهو يضمن حقوق غير المسلمين، ويضمن الحق والعدل والحريات.
والمتتبع لبرامج العمل التي طرحتها الأحزاب والحركات الإسلاميَّة في بلدان الربيع العربي، وخصوصًا في مصر وتونس؛ يجد أن هذه البرامج، وما يلحقها من مواقف لرموز العمل الإسلامي تؤكد على أن مشروع الوحدة الإسلاميَّة في صلب الاهتمام، على اختلاف درجات الأولويَّة الموضوعة له.
فيقول راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة الإسلاميَّة التونسيَّة: إنَّ كلَّ المسلمين يؤمنون بأنَّهم أمَّة واحدة، وأنَّ هذا الإيمان يجعلهم يعيدون النظر في الواقع القائم من كونهم لا يعيشون ولا يتحرّكون في إطار دولة خلافة أو ما شابهها من أطر الوحدة ما بين المسلمين، ويؤكّد أنَّ المسلمين يتوقون ويتطلعون إلى توسيع الإطار الجامع فيما بينهم للوصول إلى الوحدة.
ويقترح الغنوشي في هذا المجال، البدء في تحسين مستوى الهياكل الوحدويَّة القائمة بالفعل في العالم العربي والإسلامي، والتحوّل بها إلى إطار أوسع، فيشير إلى إمكانيَّة استغلال اتحاد دول المغرب العربي، والجامعة العربيَّة، ومنظمة التعاون الإسلامي (المؤتمر الإسلامي سابقًا)، بعد تأهيلها وتفعيلها لخدمة الشعوب العربيَّة والإسلاميَّة.
ذات الشيء نجده في مشروع النهضة الذي يقدمه الإخوان المسلمون في مصر؛ حيث إنَّ هدف تحقيق الوحدة الإسلاميَّة، موضوع ومطروح بكل صراحة في البرامج الانتخابيَّة التي تقدّمها الجماعة، وخصوصًا في مفردات مشروع النهضة الذي تعرضه كبرنامج عمل في إطار الانتخابات الرئاسيَّة.
هدف تحقيق الوحدة الإسلاميَّة، موضوع ومطروح بكل صراحة في البرامج الانتخابيَّة التي تقدّمها جماعة الإخوان المسلمين
وحتى من قبل ذلك، أكَّدت أدبيات الإخوان المسلمين في مصر وفي غيرها على أهميَّة البُعد الخاص بالوحدة الإسلاميَّة في برامج العمل ومشروعات النهضة المطروحة، بالرغم ما يطرحه عليها ذلك من تحديات.
ففي إحدى رسائله الأسبوعيَّة، التي سبقت الربيع العربي ببضعة أشهر، وحملت عنوان "الوحدة الإسلاميَّة سبيل العزة والكرامة"، يقول فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين، الدكتور محمد بديع: إنَّ مشروع الوحدة الإسلاميَّة يُعتبر من أسمى أهداف دعوة الإخوان المسلمين ويمثل مكانة بارزة في مشروعها للنهضة.
ومن قبل ذلك، ومنذ أمد بعيد، ومع حالة التراجع الحضاري التي دخلتها الأمة في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر الميلاديَّيْن، وبدء معالم التفكك في جسد الخلافة، شُغِلَ مفكرو الأمة بتقديم الاجتهادات حول قضيَّة الوحدة الإسلاميَّة، ومن بين أهم هؤلاء جمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي، والإمام محمد عبده، ومحمد رشيد رضا، وعبد العزيز الثعالبي، والشيخ محمود شلتوت.
وتعدَّدت الاجتهادات المطروحة في هذا الاتجاه، مع تنوع وتعدّد الصعوبات التي تواجه مشروع الوحدة الإسلاميَّة، واستعادة خيريَّة الأمَّة على ما دونها من الأمم، سواء من جانب قوى الاستكبار والاستعمار العالميَّة، أو قوى الفساد والاستبداد الداخلي.
إلاَّ أنَّ هناك عدداً من العناصر الرئيسة أجمعت عليها مختلف هذه الاجتهادات، ونجدها حاضرة دائمًا في الأدبيات التي تقدمها المدارس المختلفة، على رأسها العودة إلى صحيح الدين، وبناء المؤسسات القويَّة في مختلف المجالات، وتنفيذ خطط للتنمية والنهضة الحضاريَّة، الوعي بخطط الأعداء في الداخل والخارج، والأهم من ذلك، توافر الإرادة!
وفي الأخير، يقول سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾[سورة "هود"].