الناظر في حياتنا اليوم يجد أنَّ الأساليب التي يستخدمها الطغاة في قمع شعوبهم وتبرير استبدادهم متشابهة لحدّ كبير، كأنَّهم تتلمذوا في مدرسة واحدة، ليواجهوا دعاة الحق والإصلاح، الذين سلكوا مناهج الأنبياء في تغيير المنكر، وإصلاح الأمور، ليحققوا مفهوم الاستخلاف والتمكين.
ولكن ليس هذا التشابه بالغريب، فالناظر في القصص القرآني، يجد هناك تماثلاً عجيباً بين أساليب الأقوام السَّابقة في مواجهة الأنبياء، وكأنَّ هؤلاء رغم التباعد الزماني والمكاني فيما بينهم، يستنسخون بعضهم، ويكرّرون مواقفهم، ممَّا يعني وقوعهم في الهلاك، وزوال ملكهم الذي كانوا يدافعون عنه.
إنَّ القرآن الكريم قد ضرب لنا أمثلة على كثير من الأساليب التي استخدمها هؤلاء لمقاومة الدعوة والحفاظ على الملك والسلطة، وهذه تدع للإنسان مجالاً للاعتبار، خصوصاً في زماننا؛ لأنَّها تعاد بصورة مشابهة لما سبق لحد كبير، ولكن هل من متعظ ومعتبر !!
ونحن هنا، ندرج سلسلة من المواضيع حول هذه الأساليب، لنبيّن مدى التشابه بين الأقوام، في المواجهة والمعاداة، وكذلك لنربط بين الماضي البعيد والواقع الحالي في هذا الأمر.
الأسلوب الأول : التكذيب
إن الفئة الحاكمة الظالمة كانت بمجرد سماعها للرسالة الربانية، تهرع لاستخدام الحجة التي طالما استخدمها من قبلهم، وهي اتهام الدعاة المخلصين بالكذب والدجل، ليبرّروا لأنفسهم قمعهم ومحاربتهم وقتلهم.
ليس غريباً أن يتعرَّض الأنبياء الصَّادقون، أصحاب المنهج الرباني السليم، للتكذيب والمعاداة، فلقد كان الملأ والفئة الحاكمة من الطواغيت الظلمة، دائماً ما يكذّبون الأنبياء ويشككون في صدقهم، تبريراً لرفض الدعوة، وهروباً عن المجادلة والمناقشة، خصوصاً أنهم يعلمون صدقهم وحقيقة دعوتهم.
إنَّ هؤلاء بمجرد ما سمعوا الرسالة الربانية، هرعوا لاستخدام الحجة التي طالما استخدمها من قبلهم، وهي اتهام الدعاة المخلصين بالكذب والدجل، ليبرّروا لأنفسهم قمعهم ومحاربتهم وقتلهم.
يقول الشهيد المفسر سيّد قطب رحمه الله : " فأمَّا الذين كفروا بكل رسول فقد كانوا هم الذين أخذتهم العزة بالإثم، فاستكبروا أن ينزلوا عن السلطان المغتصب في أيديهم لله صاحب الخلق والأمر، وأن يسمعوا لواحد منهم ... وقد بلغ من عقدة السلطان في نفوسهم ألا ينتفع اللاحق منهم بالغابر، وأن يسلك طريقه إلى الهلاك ، كما يسلك طريقه إلى جهنم كذلك! . . إن مصارع المكذبين - كما يعرضها هذا القصص - تجري على سنة لا تتبدل: نسيان لآيات الله وانحراف عن طريقه. إنذار من الله للغافلين على يد رسول. استكبار عن العبودية لله وحده والخضوع لرب العالمين. اغترار بالرخاء واستهزاء بالإنذار واستعجال للعذاب. طغيان وتهديد وإيذاء للمؤمنين. ثبات من المؤمنين ومفاصلة على العقيدة . . ثم المصرع الذي يأتي وفق سنة الله على مدار التاريخ!"
ولنستعرض بعضاَ من الآيات التي تتحدَّث عن هذا الأمر ..
- {فقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (66الأعراف ) قوم عاد.
- {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} (هود: 27) قوم نوح.
- {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} (الشعراء:186) قوم شعيب.
- { قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} (يس : 15) أصحاب القرية.
- {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} (25 القمر) قوم ثمود.
ممَّا سبق، فإنَّه رغم اختلاف الأقوام، واختلاف الأنبياء، إلاَّ أنَّ الموقف واحد، هو التكذيب والرفض الواضح للدَّعوة، رغم ما حمله كلِّ نبي من الأنبياء لأدلة تثبت صدق دعوته وربانيتها.
إنَّ هؤلاء الأقوام، لم يتعظوا ممَّن قبلهم، و لم يدركوا أنَّ من كان قبلهم قد استخدم الأسلوب نفسه، فكذب واستكبر، وأعرض وأنكر، ومع ذلك زال ملكهم وضاعت دولهم، وورثها العباد المخلصون، جيل النصر والتمكين.
إنَّ الكثير من طغاة زماننا ومن معهم من الملأ، صاروا يتهمون دعاة الإصلاح في زماننا بالكذب والدجل، وأنَّ دعوتهم وإن كانت في خارجها صالحة، فإنها في باطنها خبيثة باطلة. ولهذا لم نجد واحداً من هؤلاء الدعاة، إلاَّ وانبرى له أصحاب الأقلام السريعة المأجورة، باتهامه بالكذب والعمالة والخيانة، ليبرّر لمن هو أعلى منه باستخدام الإرهاب الفكري، وقمع حرية الدعوة، وتقييد حركتها، بل وإعدام أصحابها ونفيهم.