يقول العمرانيون: إنَّه من بين أهم سمات الشعوب المتحضرة، الفهم والعلم، وهما صفتان تستجلبان الكثير من السمات الإيجابيَّة الأخرى، وعلى رأسها القدرة على الفعل والحركة، وصناعة الذات، وعدم الركون لنظريَّة الحاكم الملهَم القادر على القيام بكل شيء نيابةً عن رعيته، التي تتحوَّل في هذه الحالة إلى حالة أشبه بحالة الأغنام التي ترعى فقط لكي تُنتج اللحم والصوف لصاحب القطيع!
ولذلك يرتبط الاستبداد بالانحطاط والتراجع الحضاري؛ حيث إنَّه يقضي على قدرة الشعوب على الإبداع والمبادرة؛ بل على الفعل الإيجابي من الأصل، ويصل الحال إلى مستوى انعدام القدرة على التفكير.
وكلنا نعرف المقولة الشهيرة للمفكر الإسلامي والرئيس البوسني الراحل، علي عزّت بيجوفيتش، التي قالها، عندما وصل ذات مرَّة إلى صلاة الجمعة متأخرًا، وكان قد اعتاد الصَّلاة في الصفوف الأماميَّة، فأفسح له المصلون الطريق إلى أن وصل الصف الأول، فاستدار للمصلين بغضبٍ وقال هذه المقولة: "هكذا تصنعون طواغيتكم".
وبالفعل، فإنَّ مسؤوليَّة جريمة التراجع الحضاري والتردي المجتمعي والثقافي والفكري الذي تحياه مجتمعاتنا، لا تقع على عاتق أصحاب الاستبداد وفسادهم وإفسادهم، وإنَّما المسؤوليَّة تقع على عاتق الجماهير، التي أولاً صنعت هؤلاء الطواغيت، ثمَّ عبدتهم، وسكتت عليهم، اتباعًا للهوى، أو كسلاً وخوفًا وخشية، أو لأي سبب آخر.
مسؤوليَّة جريمة التراجع الحضاري والتردي المجتمعي والثقافي والفكري الذي تحياه مجتمعاتنا، لا تقع على عاتق أصحاب الاستبداد وفسادهم وإفسادهم، وإنَّما المسؤوليَّة تقع على عاتق الجماهير،
ويقول المفكر العمراني العربي المعاصر الدكتور طه جابر علواني: إنَّ اتِّباع الهوى كان وراء سقوط أمم من قبلنا في دركات الانحطاط والتدهور، فالله- تبارك وتعالى- ما خلق السموات والأرض إلاَّ بالحق، والحق هو الأمر الثابت، وأتعس أنواع الهوى وأشدها فتكًا بالإنسان وتدميرًا لدينه وإيمانه هو ذلك الهوى الذي يجعل الإنسان عبدًا لأهواء غيره يتصرف بمقتضى ذلك.
ويضيف المفكر العمراني المسلم، فكأنَّ الإنسان في هذه الحالة يجعل هواه أو يجعله هواه عبدًا لأهواء غيره من قوم ضلُّوا وأضلُّوا كثيرًا، زاغوا فأزاغ الله قلوبهم وفقدوا عقولهم وإن بدا للآخرين أنهم أصحاب عقول وأحلام، ولكنها عقول لا يعقلون بها تعمل في غير ميادينها وبعيدًا عن مجالاتها.
انتهى هنا كلام العلواني، ونقول: إنَّ هذا الهوى قد يكون ضعفًا أو طمعًا في جاه أو سلطان؛ فيُصنع الاستبداد، ثمَّ تبدأ مهمته في قلب الحقائق فى الأذهان، ومن بين ذلك، كما يقول الكواكبي في طبائعه: إنَّ المستبد يسوق الناس إلى اعتقاد أنَّ طالب الحقِ فاجر، وتارك حقه مطيع، والمشتكي المتظلِّم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين، ويصبح- كذلك- النُّصْح فضولاً، والغيرة عداوة، والشهامة عتوًّا، والحمية حماقة، والرحمة مرضًا، كما يعدُّ أنَّ النفاق سياسة، والتحيُّل كياسة، والدناءة لطف، والنذالة دماثة.
ويقول محمد علي الأتاسي: إنَّ هناك أهميَّة خاصة لأدبيات عبد الرحمن الكواكبي في هذا الإطار، ويشير إلى أنَّه من بين أوجه الأهميَّة في تجربة الكواكبي، أنه قَرَن في شخصه القول بالعمل، وترافقت أبحاثه الفكرية مع مواقفه السياسية الجريئة في مواجهة استبداد البلاط العثماني في عصر الاضمحلال، وظلم ولاته الفاسدين، وظل يعمل حتى آخر يوم من عمره وهو مشغول بالهمِّ العام.
والكواكبي هو المعادل الإيجابي النَّشِط للنمط السلبي للمواطن الخانع الذي يعطي بخنوعه مبررًا للطاغوت لكي يُولد ثم يتمدد ويسيطر، فالمتأمل في السيرة الذاتيَّة القصيرة نسبيًّا للكواكبي، الذي توفي عن 52 عامًا، سوف يجده قد تحمل الكثير من الصعاب وأوجه التنكيل من الاستبداد الذي كان قائمًا في وقته، من دون أن يحمله ذلك على التخلي عن قولة الحق في وجه السطان الجائر.
فكل الصحف التي أنشأها الكواكبي تمَّ إغلاقها، وأُبعد عن شغل الوظائف العامة، وصودرت أملاكه، وحوكم مرَّات عدَّة، وحكم عليه مرَّة بالإعدام قبل أن يُبرَّأ في الاستئناف أمام محكمة بيروت، وتعرّض لمحاولة اغتيال بطعنة خنجر أثناء عودته ليلاً إلى بيته، ونجا وقتها بأعجوبة، وقرر على إثر هذه المحاولة تَرك مدينة حلب والرحيل إلى مصر في العام 1900م، قبل عامَيْن من نشره كتابه الشهير "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، في العام 1902م.
وثمَّة قضيَّة شديدة الأهميَّة يجب إدراكها في هذا الإطار الذي نتناوله، وهو أنَّ ميل بعض الشعوب إلى تقديس حكامها، وإعطائها كافة مفاتيح التحكم والسيطرة، إنما يعني أن الشعوب التي تفعل ذلك، هي تمارس الشرك من دون أن تفهم أو تعي ذلك؛ حيث تمنح الحاكميَّة لغير الله تعالى، وتعطيه الكثير من سمات الخالق عزّ وجل، تنزّه عن ذلك سبحانه وتعالى، ومن بينها أنَّه تبارك وتعالى هو المتصرف الوحيد والمطلق في الكون وأنَّه هو الذي بيده الأمر، والذي ينفرد بكونه الغاية المطلقة للموجودات.
ميل بعض الشعوب إلى تقديس حكامها، وإعطائها كافة مفاتيح التحكم والسيطرة، إنما يعني أن الشعوب التي تفعل ذلك، هي تمارس الشرك من دون أن تفهم
والحاكميَّة هو أحد المفاهيم القرانية، وهو جزء من العقيدة الإسلامية والتصوّر الإسلامي للوجود، وللخالق عزّ وجل؛ حيث يقرِّر القرآن أنَّ الحاكميَّة صفة ربوبيَّة.. يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [سُورة "يوسف": من الآية "40"].
ويقول سيد قطب في ظلاله: إنَّه طبقًا لهذه الآية القرآنيَّة الكريمة، فإنَّ الحاكميَّة لله سبحانه وتعالى وحده، وإسنادها إلى سواه هو شرك تنزه الله سبحانه وتعالى عنه.. يقول رب العزة في محكم التنزيل: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)﴾ [سُورة "الفرقان"].
ولذلك يضع قطب في معالمه وظلاله قضيَّة الصراع مع الاستبداد في إطارها الأكثر عموميَّة وصراحة، وهو أنها قضيَّة صراع بين الجاهليَّة والإسلام، وبين الحق والباطل.
ويقول قطب في تفسيره لسورة "هود": "وما كان الخلاف على مدار التاريخ بين الجاهليَّة والإسلام، ولا كانت المعركة بين الحق والطاغوت، على ألوهيَّة الله سبحانه للكون، وتصريف أموره في عالم الأسباب والنواميس الكونيَّة، إنما كان الخلاف وكانت المعركة على من يكون هو ربُّ الناس، الذي يحكمهم بشرعه، ويصرفهم بأمره، ويدينهم بطاعته".
ويصف في "معالم في الطريق" موقف الشعوب من طواغيتها بأنَّها جاهليَّة "تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهيَّة، وهي الحاكميَّة"، وإن رأى البعض أن الحاكميَّة من صفات الربوبيَّة وليس الألوهيَّة، وأخذوها على قطب.
ومن بين الأمور المهمَّة أيضًا التي تساعد بها الشعوب على تقوية شوكة الاستبداد، وصناعة الطواغيت والأصنام، وعبادتها، أن تركَن إلى الجهل، وأن تقعد عن طلب العلم.
ولذلك، فإنَّ البعض، ومن بينهم محمد أحمد الراشد، أكَّد أنَّ التربية وحدها هي القادرة على القيام بأعباء الإصلاح الاجتماعي والفكري والسياسي المطلوب في مواجهة الطواغيت والمستبدين.