كم يشكو أحدنا في حياته أذى الحاسدين وظلمهم ؟! وكم يتألم إذا تعدّى خلق الحسد إلى الأفعال وتحوّل إلى تصرّف مدمّر؟!
عندما يتأتي على القلوب المتحابة فيفرّق بينها، وإلى الأرواح المتآلفة فيزرع فيها الشقاق والبُعد، وإلى الجماعة الواحدة فيدخل الشك بين أفرادها بعضهم ببعض ..
لذا كان التوجيه الرّباني بالاستعاذة من شرّ حاسد إذا حسد قال الله تعالى :{ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}. (الفلق :5).
وقد قصَّ علينا القرآن الكريم قصة ابنيْ آدم، التي تجلّى فيها حال الحاسد، وكيف يحمله حسده على إهلاك نفسه بقتل أقرب النَّاس إليه قرابة، وأمسه به رحماً، وأولاهم بالحنو عليه ودفع الأذية عنه، قال الله تعالى : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}. (المائدة :27).
كان التوجيه الرّباني بالاستعاذة من شرّ حاسد إذا حسد قال الله تعالى :{ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}. (الفلق :5).
لقد فعل الحسد فعلته وأعمى بصيرته وأغرى شهوته في القتل، وقاده إلى قتل أقرب النَّاس إليه، لكنّ الطرف الآخر كان متمسكاً بأخوته ومحبته، مشفقاً على ما سيؤول إليه أمر أخيه إن هو نفَّذ تهديده بالقتل .. {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}. (المائدة: 28- 29).
في التعبير القرآني : {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} .. يقول الإمام الشعراوي رحمه الله في تفسير هذه الآية : (نجد أنَّ " الهاء " تشير إليه هو، وذلك يدل على أنَّ الإنسان فيه ملكات متعدّدة؛ ملكة تقول: اقتله، وملكة أخرى تقول له: لا تقتله. ضميره يقول له: لا تفعل، والنفس الأمَّارة بالسوء تقول له: اقتل، ويكون هو متردّداً بين الأمرين. وقوله الحق: { فَطَوَّعَتْ لَهُ} دليل على أنَّ نفسه كانت متأبية عليه، لكن النفس الأمارة بالسوء ظلت وراءه بالإلحاح حتى أنَّ نفسه الفاعلة طوَّعت له أن يقتل أخاه، ومع أنَّ نفسه طوَّعت له أن يقتل أخاه إلاَّ أنَّه أصبح بعد ذلك من النادمين).
حتى إذا ما استكانت ثورة الشر، ووجد المجرم نفسه وجهاً لوجه أمام ضحيته، عصفت رياح الفزع والندم بلبِّه وقلبه، وهيهات، لابد من حمل التبعة
بعد أنَّ نفّذ وعده بالقتل، وقضى شهوة الانتقام، التي كان أساسها الحسد، جاء النّدم، وهل ينفع النّدم ؟! يقول الشيخ محمد الغزالي: (حتى إذا ما استكانت ثورة الشر، ووجد المجرم نفسه وجهاً لوجه أمام ضحيته، عصفت رياح الفزع والندم بلبِّه وقلبه، وهيهات، لابد من حمل التبعة! لكن المجرم الذي كان سريعاً في فهم معاني الهزيمة، وأسباب الغيرة، ينقلب أغبى الأغبياء بعد ارتكاب جريمته، فهو لا يدرى ما يفعل، ذلك لأنَّ ارتكاب جريمة لا تجعل من الرَّجل المخفق رجلاً ناجحاً، ولا من الرَّجل الخاسر رجلاً رابحاً). قال الله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}. (المائدة :31).
في هذه القصة القرآنية عبر ودروس ومنهج متكامل في التعامل الصَّحيح بين النَّاس في حالة التخاصم والاختلاف ..
ومن قوله تعالى على لسان القاتل بعد أن نفَّذ فعلته : {سَوْءَةَ أَخِي} .. فالسوءة هي العورة، وما لا يجوز أن ينكشف من جسده.. فالحسد قاده إلى القتل وكشف عورة أخيه، وكان جزاؤه النّدم ثمَّ الخسران . قال الحسن البصري : (علاه الله بندامة بعد خسران).
وفي أحداث القصة كانت مجريات أول جريمة قتل في الإنسانية حيث الحسد سببها الوحيد، فكان الحسد أول معصية يعصى بها الله سبحانه وتعالى في الأرض..
ما أجمل الحياة وأسعدها حين نعيش إخوة متحابين متآلفين، شعارنا قوله تعالى :{لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}
إنَّ الحسد من أكبر الخطايا والذنوب ومن أقبح السيّئات، وقد وصفه الرّسول صلَّى الله عليه وسلّم بقوله: ((دبَّ إليكم داء الأمم الحسد والبغضاء هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)). (سنن الترمذي ومسند أحمد). وحث على وجوب ستر العورات بدل من فضحها وكشفها بين النّاس فقال: ((لا يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة)). (صحيح مسلم). وفي شرح قوله صلَّى الله عليه وسلّم : ((إلا ستره الله يوم القيامة)). قال القاضي : (يحتمل وجهين أحدهما أن يستر معاصيه وعيوبه عن إذاعتها في أهل الموقف والثاني ترك محاسبته عليها وترك ذكرها قال والأول أظهر لما جاء في الحديث الآخر يقرره بذنوبه يقول : سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفر لك اليوم).
ما أجمل الحياة وأسعدها حين نعيش إخوة متحابين متآلفين، شعارنا قوله تعالى :{لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} .. ودأبنا فيها ستر عورات المسلمين..
حياة لا حسد فيها، بل نوظف الحسد في مكانه الطبيعي؛ كما ورد عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم: ((لا حسدَ إلاَّ في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)). (البخاري ومسلم).