يقول الله سبحانه وتعالى في مُحكم التنزيل: "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)" [سورة "البقرة"].. هذه الكلمات هي بصائر قرآنيَّة آخر ما أُنزل على محمَّد "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" من لدن حكيم خبير، وبالرغم من أنَّ المُخاطَب- بفتح الطاء- في هذه الآية غير مُحدَّد، وأنَّ نصَّ الآية وعظ لجميع الناس وأمر يخص كلّ إنسان، كما يقول القرطبي: إلاَّ أنَّ الكثير من المفسرين يقولون: إنَّها موجهة إلى جماعة المسلمين أو المؤمنين.
والتقوى في لسان العرب هي الاسم من "التُقى"، والمصدر "الاتقاء"، وهي مأخوذة من مادة "وقى" فهي من الوقاية، وهي ما يحمي به الإنسان نفسه، وتدل على دفع شيء عن شيء لغيره، فالوقاية ما يقي الشيء، ووقاه الله السوء وقاية أي حفظه.
ومن تعريف التقوى السَّابق؛ فإنَّ أولى ثمار تقوى تنال صاحبها، فهي فعل يقي صاحبه مصارع السوء.
وللإمام علي بن أبي طالب "رضي اللهُ عنه" مقولة شهيرة في التعريف بالتقوى، وهي أنَّ التقوى "هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل".
ويقول ابن القيم في التقوى: إنَّ حقيقتها العمل بطاعة الله إيمانًا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا. أمَّا الإمام أحمد بن حنبل فيقول: إنَّ التقوى "هي ترك ما تهوى لما تخشى".
ولا يوجد شأن أعظم من القيام على أمور الأمة، ولعلَّ أحد أبرز أسباب التراجع الحضاري للأمة، وتخلفها، أن غابت عن حكامها فكرة المحاسبة أمام رب العزّة سبحانه وتعالى، في الآخرة، عما فعلوه في الأمانة التي كُلِّفوها، وبالتالي استبدوا وتجبروا، وأفسدوا، ونهبوا الثروات، وانشغلوا بمصالحهم عن مصالح الأمَّة.
ولعلَّ أحد أبرز أسباب التراجع الحضاري للأمة، وتخلفها، أن غابت عن حكامها فكرة المحاسبة أمام رب العزّة سبحانه وتعالى، في الآخرة،
ولعلَّ في هذه الآية القرآنية الكريمة الكثير من الأمور التي يجب على صُنَّاع القرار الجُدد في بلدان الربيع العربي أن يقتدوا بها، وعلى رأسها، أنَّ هناك أمانة يحملونها، سوف يحاسبون عليها، وأنَّ هذا الحساب يتجاوز فكرة المحاسبة أمام المؤسسات التمثيليَّة والعدليَّة، التي تمثل مصالح الشعوب وفق قواعد الحكم الرشيد المطلوب إرسائها، إلى المحاسبة أمام الله عزّ وجل، في يوم الحساب، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاَّ من أتى الله تعالى بقلب سليم كما يقول الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم".
إنَّ المسؤوليَّة الرئيسة المفروضة على حكَّامنا الجدد، من أصحاب المشروع الصحوي الإسلامي، أن يلتفتوا إلى تكريس ثقافة محاسبة النفس، وأن يكونوا على إدراك كامل بأنَّ ما يقومون به إنما هو في إطار المسؤوليَّة، وأنه يجب استشعار هذه المسؤوليَّة في إطار أكبر من مجرّد الحديث عن مؤسسات دستوريَّة تراقب إلى مسألة الوقوف بين يدي الله عزَّ وجل يوم الحساب.
إنَّ التأسيس لهذه المسألة من أهم الأمور والواجبات المفروضة على حكَّامنا الجدد ممَّن أتت أو سوف تأتي بهم صناديق الاقتراع، ضمن سلسلة ضخمة من الواجبات التي تتمحور حول عنوان واحد، وهو التأسيس لثقافة الحكم الرشيد في مجتمعاتنا العربيَّة، وجعلها أمرًا طبيعيًّا، لا يمكن لأي حاكم قادم أن يتجاوزها، والحيلولة دون تكرار أنماط حكم الفساد والاستبداد التي كانت قائمة، وأضاعت مجد الأمَّة وثرواتها وسرقت حتى تاريخها.
ولا يظنن أحد أنَّ هذه القضيَّة تُعدُّ ترفًا أو أمرًا ثانويًّا في أولويته، لحساب تحقيق الحاجات الأساسيَّة للمواطن، مثل توفير رغيف الخبز والوقود وتحسين مستوى الرواتب وغير ذلك مما هو مطروح على أجندة المواطن، لأنه لا يمكن ضمان استمرار عمليَّة تحسين أوضاع المواطن، من دون وضع إطار مستديم سليم للحكم، يضمن ألاّ يعود الحكم ملكًا عضودًا أو جبريًّا، ويكرّس ثقافة سلب ثروات الأوطان.
وهذا ينطلق من حقيقة أو من بديهيَّة، أنَّ المستقبل أهم بكثير من الحاضر، وأنَّ التأسيس له، إنَّما يعني ضمان تحسين أحوال الحاضر، وضمان الوصول إلى المستقبل المنشود، الذي تعود فيه خيريَّة الأمة.
المستقبل أهم بكثير من الحاضر، وأنَّ التأسيس له، إنَّما يعني ضمان تحسين أحوال الحاضر، وضمان الوصول إلى المستقبل المنشود، الذي تعود فيه خيريَّة الأمة.
وهناك حديث روته السيدة عائشة "رضي الله عنها"، أنَّ النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" قال: "من ظلم شبرًا من الأرض طوَّقه اللهُ من سبع أرضين" [متفق عليه]، وهناك حديث آخر رواه أبو إمامة عن الرسول "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" أنه قال: "مَن اقتطع حقَّ امرئ مسلم بيمينه حرَّم الله عليه الجنة وأوجب له النار. قالوا: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟. قال: وإن كان قضيبًا من أراك، وإن كان قضيبًا من أراك. قالها ثلاث مرات" [أخرجه "مالك" وصحَّحه الألباني].
هذا في شبر من الأرض، أو في عود سواك يأخذه الأخ من أخيه، فما هو حال الراعي الذي يغش رعيته، ويسرقها؟!.. يقول "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم": "من وُلِّيَ من أمر المسلمين شيئًا فغشَّهم فهو في النار" [أخرجه الطبراني وصححه الألباني]، ويقول "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" أيضًا: "ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلَّة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلَّته وحاجته ومسكنته" [أخرجه الحاكم بنحو لفظ أبي داود وقال صحيح الإسناد].
وفي الأخير، فإنَّ أول طرف يجب أن يضع دروس ثورات الربيع العربي نصب عينيه، هم حكامنا الجدد؛ حيث ينبغي أن يدركوا أنَّه مهما طال العهد بالظلم؛ فإنَّ الله تعالى يُمهل ولا يُهمل.
ونختم بقوله عز وجل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27)" [سورة "الأنفال"].