1- مدخل.
ما جرى في مصر أمس عظيم بكل المقاييس، ما جرى هو فوق التصور والتخيل، أن ينتخب رئيس لمصر. هذا أمر مدهش مثير لكل مشاعر الغبطة والسعادة والسرور واليقين والثقة بالمستقبل.
كانت تجري الانتخابات دائماً، رئاسية وبرلمانية ومجلس شورى، أو كما يتندّر إخواننا المصريون "شوربة"، وانتخابات بلدية ونقابات فنانين ومهنيين، إلى آخر المسلسل الطويل، وكله جاهز معدّ معلّب معلومة نتائجه سلفاً.
ويردد الناس في بلد عربي نكتة تقول: إنّ أباً رأى ابنه تخرّج من الجامعة، فأصبح "أعور بين عميان" بتعبيرهم في ذلك الوقت، فقال: لم لا نرشّح الولد للانتخابات النيابية التي ستجري بعد عدة شهور؟ وكان وزير الداخلية صديقاً له، فقال: يا معالي الأخ، تعلم أنّ ابني تخرّج من الجامعة وأود أن أدفع به إلى انتخابات مجلس النواب أو الشعب، فأحببت أن أعرف رأيك. فقال: دعني أنظر في النتائج إذا كان ابنك سينجح أو يكون من بين الناجحين أو لا. ففتح الدرج ونظر في الكشف وقال: ابنك ليس بين من سينجحون، فوفّر على نفسك! والواقع مطابق للنكتة أو النكتة تغترف من الواقع. ويحكى أنّ زعيم ذلك البلد ضحك حتى جلس على أقرب كرسي عند سماعه للنكتة، وكأنّ الكلام عن مسلسل مكسيكي! فما جرى في مصر فتْح بكل المعنى وكل المقاييس!
2- المنّ على المستضعفين.
لعلّ أول دروس انتخابات مصر، الانتقام الإلهي من النظام السابق في مصر، بأن ينجح كل الذين عذّبهم النظام، وكلّما كانت تضحيتك زمن النظام السابق أكبر كانت فرصتك للفوز أوفر.
ولعلّ أهم نقطة تميّز "حمدين صباحي" ليس ناصريته، فالناصريون مئات أو ألوف، لكنه اضطهد وسجن وعذّب زمن النظام السابق، فهذا جعله "الحصان الأسود" كما تقول وسائل الإعلام، والأعلى أصواتاً في الإسكندرية، فوق الستمئة ألف صوت. لقد تحقق وعد الله بحق فرعون ومن اضطهدهم فرعون، والتاريخ يعيد نفسه: "ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكّن لهم في الأرض، ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون". كان بين مرسي والفوز برئاسة الجمهورية تحصيله أصواتاً معدودات، زائدة على الحصيلة التي حصلها، وسيفوز في الإعادة بإذن الله.
لقد تحققت آيات الله أو على وشك التحقق، لقد أصبح الذين كانوا مضطهدين مستضعفين من فرعون مصر حسني مبارك هم الأئمة، وهم الوارثون.
3- الفوز من الجولة الأولى..ممكن فوّتناه.
هل كان يمكن الفوز في الجولة الأولى؟ الجواب نعم وبالتأكيد، وكنّا وفّرنا على مصر هذا الجهد وهذا الحشد، وذلك بألاّ نفتت أصوات الناخبين بين: الدكتور العوا والدكتور أبو الفتوح والدكتور المرسي (وحازم قبل إلغائه). كان ينبغي أن نتعلّم درس التضحية والزهد، والبعد عند المغنم والتقدم عند المغرم، وأن يتنازل بعضنا لبعض، والإيثار وترك الأثرة.
كنّا كبرنا في عيون الناس، ووحّدنا الجماهير وعلّمناها درساً أبلغ من كل دروسنا وكل مقابلاتنا التلفزيونية وغير المتلفزة.
كان ينبغي أن يتنازل بعض لبعض وبأريحية، أو نُقرع فيما بيننا حتى نستقر على واحد، ونرضى بما قضى الله.
هذا مع استبعاد حازم أبو إسماعيل، وإلاّ كانت الأمور أسوأ. ولو كنت مكان الإخوان لدعمت أبو الفتوح أو حمدين صباحي. وما كان من داع فيما أرى للنزول للرئاسة فسيعمل الداخل والخارج على إفشالك. وكنت جئت أنت منقذاً بعد التجربة وفشلها.
والدكتور العوا هو الأقوى-الأضعف، الأقوى ثقافة وعلماً وفكراً وسياسة ودبلوماسية، والأضعف لأنه لا ظهر له. ولو تبنّاه الإخوان لكان شيئاً مذكوراً. ولعلّ مقابلته في ال بي بي سي كانت أقوى المقابلات على الإطلاق.
ونزوله بمفرده محكوم عليه بالفشل الذريع، فكيف وهو الفطن لم يفطن لهذا؟ ولسنا نعلّم المصريين ولا الإخوان، لكن هذا رأي نعبّر عنه مع احترامنا لهم جميعاً.
4- الفرقة شغّالة كويّس.
وأعني بالفرقة فرقة الشرّ والتبعية والعمالة، واستمرار نهج مبارك، وفلول النظام، وقوى الإعاقة، ومقاومة الإصلاح.
وتأمّل معي تسلسل الأحداث: عدم تقديم عمر سليمان للمحاكمة مع أنّه رأس الأفعى، ومبارك أمامه غبي لكنه واجهة، ومصدّ رياح، وهو جسر العبور إلى الموساد والمخابرات المركزية والتخطيط لكل الشرور والسوء الذي كان في زمان مبارك، ثم تصل به الصفاقة أن يترشّح لرئاسة الشعب الذي داسه وعذّبه وهدر مقدراته ودمّر مؤسساته. من أيّ معدن صيغ هؤلاء؟ ثم تكرَّم المجلس العسكري بمنع عمر سليمان، فهل عرفتم الآن لماذا؟
المجلس باعنا مراجل ووطنية بمنع سليمان، وإذ بالأمر أعقد وأعوص ممّا ظننا. أرادوا أن تصبّ الأصوات كلها عند أحمد شفيق، وهو سياسي أكثر من عمر سليمان، وليس محروقاً كعمر سليمان. وإذا كانت المسألة مرجلة ووطنية، فلماذا رفعتم الحجب عن شفيق وأقررتموه على سليمان، والاثنان من قيادات حزب الشيطان؟
والدلالة أنّ الفرقة كانت شغالة جيد جداً ما حصله أحمد شفيق، الذي استقبله الشعب المصري المصري بالأحذية. فمن الذي انتخبه إذاً؟ عدّ معنا يا عم:
1- صبّ الأقباط أصواتهم لأحمد شفيق، ممّا يدل على موقف غير مقبول، من نبض الشارع ونبض الشعب، ومن الإسلام، فمعلوم أنّ أحمد شفيق إحدى نسخ مبارك، استنسخ عنه كعباس عن عرفات.
2- الحزب الوطني الحاكم وهم ملايين من الانتهازيين والمستفيدين من الوطن والامتيازات، ومئات ألوف من البلطجية.
3- العلمانيون جلّهم واليساريون جلّهم والشيوعيون والليبراليون والفوضويون والجواسيس والمتحللون، فكل هؤلاء لا يريدون لا الإسلام ولا الوطنية ولا الحق.
4- من جنّدتهم المخابرات المركزية والموساد، وهم جيش ليسوا آحاداً كما قد يظن، وهؤلاء ليست قوتهم في أعدادهم، إنّما في نشاطهم وبثّهم وسط الجماهير أنّ أحمد شفيق عسكري وسياسي وقوي ومصر تحتاج إلى مثل هذا، وابن النظام هو يعرف المداخل والمخارج، وهو رجل المجلس العسكري، ومصر لا تستطيع أن تنفك عن قيادة الجيش، فمنذ ستين سنة ونيف ومصر تحت حكم العسكر حتى أدمنته وألفته كالمخدرات.
5- إعلام ربّاه النظام المباركي على عداوة الإسلام، وقد تغيّرت كل مجالس الإدارة وكل رؤساء التحرير لكل الصحف والمجلات وبقي التوجه هو هو لم يتغيّر، الحرب على الإسلام والمسلمين! وسنفصل هذا لاحقاً.
6- الأجهزة الأمنية والعسكرية والمخابراتية والاستخبارية، والمتقاعدون كل هؤلاء وجّهوا أن يعطوا أصواتهم لأحمد شفيق.
7- ما ضخّته أمريكا من عشرات الملايين، وكلكم يذكر فضيحة الجمعيات والملايين وكلمة الجنزوري لن نركع، وفي نفس اليوم خرج الأمريكان من البلد.
5- إعلام مبارك في الميدان.
الحملة على الإسلام في إعلام العهد المباركي استمرت بعد العهد البائد، بل زادت شرة وشراسة وشراً، ولذلك فإنّ الإعلام المصري لم يعلم إن قامت في مصر ثورة أم لا. والحملة على الحركة الإسلامية، وكأنها جاءت من المريخ، لا أنّها نبتت من تربة مصر ومن صميم شعب مصر.
وأمّا الكاريكاتير فحدّث ولا حرج، في أخبار اليوم رسم كاريكاتيري لقيادة الحركة الإسلامية يقول لمن يشتمون أمريكا: لا تشتموا أمريكا فهذه آلهتنا. هكذا. ويقولون عن العوا ليس فيه إلاّ اسمه، ويقولون عن مرسي "الاستبن" بل إنّهم لا يسمونه، بل يذكرونه دوماً بهذا اللقب، صرّح "الاستبن" قال "الاستبن"، و"الاستبن" لمن لا يعرف اللهجة المصرية (العَجل أو الدولاب "السبير" أو الإطار الاحتياط، لأن المجلس إياه منع الشاطر من الترشح. مع أنّ القانون الذي حوكم وحكم على أساسه قانون فاسد ساقط عميل يخدم "إسرائيل"، فالتخلص منه بديهية من البديهيات، فكيف أثور على مبارك وأسقطه ثم تستمر أحكامه بعد سقوطه؟ المهم أنّ الإخوان كانوا رشّحوا محمد مرسي بديلاً إذا منع الشاطر وهذا الذي كان).
والمقام لا يتّسع لعرض حملتهم الشرسة، ولا أبالغ إن قلت أنّ معظم الدوريات والمجلات المصرية، وأنا أتابعها أسبوعياً: الأهرام العربي والاقتصادي وروز اليوسف وآخر ساعة وأخبار اليوم و..، كلها من الغلاف إلى الغلاف سخرية بالمسلمين.
6- الشعب المصري طيب أصيل.
الشعب المصري من أحسن الشعوب العربية معدناً ونوعية وإنساناً. شعب صبور جَلْد متحمل مضح، بنى كثيراً من البلاد العربية، ولم يسمع منها إلاّ النقد. وقد مرّ به من المظالم ما يهدّ الجبال، ومرّت وبقي هذا الشعب النبيل الأصيل. وفي الملمات والمهمات تظهر معادن الشعوب، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر، وفي الأزمات كنّا نفتقد مصر ودور مصر.
وعلى الملاحظات الكثيرة على العهد الناصري فقد جعل لمصر دوراً مهماً، ولمّا جاء السادات "كفأها" لا على ذاتها، وإنّما لخدمة مشروع أمريكا والصهيونية في المنطقة، حتى إذا جاء مبارك جمع نقائص الدنيا كلها في رجل، ومظالم الوجود كلها في شخص قذر، وتحمّله الشعب المصري بكل قرفه وإجرامه، ثم انفجر في وجه الفرعون حتى أطاح به.
وبرغم كل محاولات التضليل للشعب المصري الأصيل وتشويه الإسلام والمسلمين، إلاّ أنّه وقف بكل صدق وصفاء مع دينه وذاته وتاريخه وجذوره وأصوله.
يا إخواننا، لا يعرف هذا الكلام إلاّ من عرف حجم الإجرام في الإعلام الذي يتعرّض له الرأي العام في مصر، وبعد الثورة ضخّت أمريكا عشرات أو مئات الملايين لإنشاء مزيد من القنوات لتشويه القيم الإسلامية، وإبعاد الجماهير عن مصلحتها، ونجحت مصر وشعب مصر.
فطوبى لهذا الشعب ومرحى لهذا الشعب، ونبارك له سلفاً باختياره، ونجاح تجربته، والحمد لله على تحرر مصر ونجاح ثورتها، وأكمل الله فرحتنا بذهاب العسكر!
المصدر: صحيفة السبيل الأردنية