“وثيقة المدينة” ودولة المواطنة في الإسلام ( 1-2)

الرئيسية » بصائر الفكر » “وثيقة المدينة” ودولة المواطنة في الإسلام ( 1-2)
alt

من بين أبرز القضايا التي يحاول العلمانيون والليبراليون من أعداء المشروع الصَّحوي الإسلامي، وتطبيقاته في مجال الدولة والحكم، قضيَّة المواطنة، وشكلها في دولة الإسلام.

ويستغل هؤلاء الممارسة السياسيَّة والاجتماعيَّة لأنظمة عرفتها بعض الفترات التاريخيَّة في دولة الخلافة الإسلاميَّة في مراحل ضعفها، أو في بعض الدول في عالمنا العربي والإسلامي؛ حيث يوجد ممارسات تمييزيَّة في توزيع السلطة والثروة بالأساس بين فئات المجتمع الواحد، بما يخالف أبسط قواعد الحكم الرشيد.

ويخلط هؤلاء، ممَّن يعارضون المشروع الإسلامي، ويرغبون في وقف قطار تقدّمه، ما بين العديد من الأمور في أحكامهم هذه التي يصدرونها، سواء أكان ذلك بحسن نيَّة أو بسوء نيَّة، ومن بين ذلك الخلط ما بين الأصل النقي، أي تعاليم الإسلام في هذا المجال، وبين الممارسة البشريَّة التي قد تبتعد قليلاً أو كثيرًا عن الأصول النقيَّة.

ومن بين ذلك أيضًا الخلط ما بين نظام الحكم في الإسلام، وبين نظم الحكم الاستبداديَّة التي نهضت بين ظهرانيي العالم العربي والإسلامي، في مرحلة ما بعد ظهور الدولة القوميَّة الحديثة؛ حيث كانت الممارسة السياسيَّة والاجتماعيَّة من جانب هذه الأنظمة تقوم على أساس الإعلاء من شأن ومصالح مجموعات ضيقة تهيمن على الحكم، سواء كانت تخالف الأغلبيَّة الموجودة في المجتمع، أو تتفق معها في انتمائها.
يخلط معارضو المشروع الإسلامي بين نظام الحكم الأستبدادية التي ظهرت في التاريخ الإسلامي وبين المشروع ذاته

ولقد أشارت السُّنَّة النبويَّة الشريفة إلى ذلك بكل وضوح، واعترفت به، ففي حديث للنعمان بن بشير "رَضِيَ اللهُ عَنْه"، يقول: كنا جلوسًا في المسجد فجاء أبو ثعلبة الخشني، فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء، فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة.

فقال حذيفة: قال رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ": "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون مُلْكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون مُلْكًا جبريَّة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة" ثم سكت [أخرجه الإمام أحمد].

ومن ثَمَّ فإنَّه في إطار المراجعات الفكريَّة التي نهضت بها الحركات والتيَّارات الإسلاميَّة منذ عقود، في إطار محاولة تصحيح المفاهيم، وتصويب الصورة، تمهيدًا لاستقطاب المجتمعات في دعم مشروع الصحوة والنهضة الإسلامي، فإنه من بين الأمور التي يجب أن تنهض عليها العقول والأقلام في الأدبيات الحركيَّة الصحويَّة، ترسيخ حقيقة أركان الدولة والحكم في الإسلام، والصورة التي ينهض عليها الحكم في الإسلام.

وتعود أهميَّة تناول قضيَّة المواطنة في هذا المُقام، إلى الجانب الخاص بحشد تأييد مختلف تيارات وشرائح المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة لتأييد مشروع النهضة الإسلامي، بما فيه من أركان الحكم المختلفة، فلو أدركت هذه التيارات والشرائح أنه لا يوجد مشروع آخر بنفس عدالة المشروع الإسلامي في إعطاء كل مواطن في الدولة حقه؛ لنال المشروع تأييد مختلف أطياف المجتمع، وبالتالي دعمه، ويحقق النجاح المنشود.
المساواة بين شرائح الجمتع أحد العوامل التي ساهمت في نجاح المشروعات الإسلامية كما في حالة حماس

فالنجاح الحقيقي الذي حققته بعض التجارب والمشروعات لقوى إسلاميَّة استطاعت الوصول إلى حكم بلدانها، كما في حالة حركة حماس في فلسطين، وحزب العدالة والتنمية التركي، وكذلك تجربة محاضر محمد في ماليزيا، جاء من تأكيدها على عدد من النقاط والأمور، اتخذتها ثوابتًا لها في الحكم، ومن بينها المساواة الكاملة بين مختلف شرائح المجتمع، وفق قاعدة المواطنة، بحقوقها وواجباتها، فكانت المجتمعات عامل تأييد لهذا المشروع؛ لأنه في مصلحتها، ويحقق لها طموحاتها وأهدافها.

على العكس؛ فإنَّ أنظمة الحكم التي عادت مجتمعاتها، وميَّزَتْ بين أبنائها، كانت عرضة للفشل والانهيار، من خلال الثورات الاجتماعيَّة والانتفاضات الشعبيَّة، التي قامت بها الغالبيَّة العظمى المهمَّشة، كما جرى في بلدان الربيع العربي في العام ونصف الأخيرة.

 

المواطنة في وثيقة المدينة:

عرف الإسلام في عقود الخلافة الراشدة الأولى، التي كانت على منهاج النُّبوَّة، العديد من المواثيق والعهود، سواء تلك التي صدرت عن النبي الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، أو الصحابة الكِرام رضوان الله تعالى عليهم جميعًا، والتي نظمت شكل الحياة في دولة الإسلام الأولى، مثل عهدة نجران مع مسيحيي شبه الجزيرة العربيَّة، والعهدة العمريَّة مع نصارى بيت المقدس.

ومن بين أهم هذه الوثائق، وثيقة المدينة التي أرساها الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، بعد هجرته المباركة إلى المدينة المنورة، كأول وأهم الدساتير التي عرفها تاريخ الإنسانيَّة والعمران البشري، نحو إرساء قواعد دولة المواطنة وحقوق الإنسان، ولم يسبقها تاريخيًّا إلى ذلك أية وثيقة أخرى على نفس الدرجة من الكمال والعمق في هذا.
عرف الإسلام مواثيق عديدة نحو إرساء دولة المواطنة

فوثيقة "الماجنا كارتا" أو "الوثيقة العظمى" أو "الكتاب الأعظم"، في انجلترا، والتي حدَّدت سلطات الملك، وأرست قواعد المواطنة في انجلترا، والتي يتباهى بها الغرب، باعتبارها أحد أهم العلامات في تاريخ الإنسانيَّة في مجال الحقوق والمواطنة والممارسة الديمقراطيَّة، وُضِعت نسختها الأولى في العام 1225م، أي بعد صدور وثيقة المدينة، في العام 622م، بما يزيد على ستة قرون.

 

{youtube}K-Z_9n4YX0I{/youtube}

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …