أشرنا فيما تقدَّم من الهداية الربانية إلى أنَّ لها موجبات وشروطاً، وأنَّها لا تنال إلاَّ بالاستهداء، فإنَّ لها أيضاً موانع و عوائق، من اتقاها نجا وفاز. وكما قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه - كما ورد في الصَّحيحين-: ((كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني...)).
موانع الهداية الربانيـة
• أنانية مانعة للخير تابعة للهوى: إنَّ النفس بطبيعتها تميل إلى شهواتها ولذاتها ورغباتها النفسية والمعنوية والمادية ولكن عزها وشرفها في تهذيبها إلى رغبات وحي ربها، وذلها وهوانها في تمكينها مما تشتهي، كما قال الشاعر:
فمن هجر اللذات نال المنى ومن أكبَّ على اللذات عض على اليد
ففي قمع أهواء النفوس اعتزازها وفي نيلهـا ما تشتهي ذلُّ سرمــدِ
فلا تشتـغـل إلا بمـا يُكسب العلـى ولا ترضَ للنفس النفيسة بالرَّدِي
إنَّ النفس بطبيعتها تميل إلى شهواتها ولذاتها ورغباتها النفسية والمعنوية والمادية ولكن عزها وشرفها في تهذيبها إلى رغبات وحي ربها
إنَّها جرثومة نفسية - إن استشرت- تُنسي المرء أصل خِلْـقته وغايته من خَلْـقِه وتُوكِلُه إلى نفسه وتغير عنده موازين الحق، فلا يتجنب معصية ولا يتبع طاعة ولا يأخذ بنصيحة أو رأي إلا إذا وافقت طبعه وهواه. ونستشفها من موقف إبليس حين أمره الله تعالى بالسجود لآدم عليه السلام فرد قائلا: "أنــا خير منه". فكان بهذه الكلمة وما تحوي بين طياتها من معاني الكبر والحسد والغرور والهوى، مطرودا من رحمة ربه، محكوما عليه بالضلالة في الدنيا وبالعذاب في الآخرة ولبئس المصير. قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص:50). ومع قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}. ظلم وإسراف وكذب لا يتأتيان إلا إذا طغت الأنانية النفسية، فيظلم نفسه وغيره ويسرف على نفسه فيكدر فطرتها التي خلقها الله عليها.
• حب الدنيا تعلقاً وتكلفاً: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (من هوان الدنيا وحقارتها أن الله عز وجل أخرج أطايبها من خسائسها. فالدنيا سبعة أشياء: مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومنكوح ومسموع ومبصر. أما المأكولات فأشرفها العسل وهو لعاب ذباب، وأطيب المشروبات الماء ويستوي في شربه الآدمي والكلب والخنزير والحمار. وأفضل الملبوسات الحرير والإبريسم وهو لعاب دودة، وأشرف المناكح النساء وحقيقتها مبال في مبال، وأشرف المشمومات المسك وهو دم غزال، والمسموع والمبصر مشترك بين ذلك وبين البهائم) . ولذلك فإن تزاحم الدنيا في قلب العبد يكدره، فيسكر عقله ويعمى بصره ويصم أذنه عن نداء الله، فتصبح النفس أقرب للترف والفسوق منها للزهد والصلاح. يقول تعالى: {قلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة: 24). ويقول سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (النحل: 107). ولهذا كان ترك التعلق بها مفتاح نور الهداية الربانية، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح، قالوا: وما علامة ذلك يا رسول الله؟، قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور)).
وعندما أراد إبليس أن يغوي سيدنا آدم قال: {هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى}، فوسوس له بالملك الخالد والعمر الممتد الدائم، فكانت المعصية التي أخرجته من الجنة ليستقر في الأرض بعد توبته ليحقق هو وذريته رسالة الخلق والوجود. يقول سيد قطب –رحمه الله- في هذه الآية: " وعَهْدُ اللّه إلى آدم كان هو الأكل من كل الثمار سوى شجرة واحدة ، تمثل المحظور الذي لابد منه لتربية الإرادة، وتأكيد الشخصية، والتحرر من رغائب النفس وشهواتها بالقدر الذي يحفظ للروح الإنسانية حرية الانطلاق من الضرورات عندما تريد، فلا تستعبدها الرّغائب وتقهرها. وهذا هو المقياس الذي لا يخطئ في قياس الرقي البشري. فكلما كانت النفس أقدر على ضبط رغائبها والتحكم فيها والاستعلاء عليها كانت أعلى في سلم الرقي البشري. وكلما ضعفت أمام الرغبة وتهاوت كانت أقرب إلى البهيمية وإلى المدارج الأولى.
من أجل ذلك شاءت العناية الإلهية التي ترعى هذا الكائن الإنساني أن تعده لخلافة الأرض باختبار إرادته، وتنبيه قوة المقاومة فيه، وفتح عينيه على ما ينتظره من صراع بين الرّغائب التي يزينها الشيطان، وإرادته."
وللهداية مقاييس يعرض المرء نفسه عليها ليعرف إن كان على طريق الهداية أم الضلال، نستنبطها من حياة الجيل الأول من الصحابة
•الغفلة والنسيان: يقول ابن القيم: "فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكبا على قلبه، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فـيه صور المعلومات على ما هي عليه، فـيرى الباطل فـي صورة الحق والحق فـي صورة الباطل، لأنّه لما تراكم عليه الصدأ أظلم فلم تظهر فـيه صورة الحقائق كما هي عليه، فإذا تراكم عليه الصدأ واسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقا ولا ينكر باطلا". وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (يونس: 7،8). وهكذا يبعث الله بآياته لتعتبر النفوس الغافلة.
ظلم وإسراف وكذب وفسوق وكفر ... من اتصف بصفة منها حرم الهداية الربانية، وإنها لخسارة ما بعدها خسارة!!. و من ارتقى بإنسانيته وإسلامه عقائديا وإيمانيا وسعى لتحقيق جهاد أبدي شامل مصحوبا بعبودية تقربنا لله وأخوة نريد بها وجه الله نلنا بمشيئته سبحانه هدايته في الدراين.
وللهداية مقاييس يعرض المرء نفسه عليها ليعرف إن كان على طريق الهداية أم الضلال، نستنبطها من حياة الجيل الأول من الصحابة. قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا..} (الأنعام: 122)
مقاييس الهداية:
•انتصار الإيمان على المال:
ونبصره في قصة صهيب الرومي فيما يرويه في الحديث الصَّحيح قائلا: (لما أردت الهجرة من مكة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش: يا صهيب: قدمت إلينا ولا مال لك وتخرج أنت ومالك، وفي رواية: أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك أبدا، فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا نعم، فدفعت إليهم مالي، فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي صلَّى الله عليه وسلّم، فقال: "ربح صهيب، ربح صهيب")
•انتصار الإيمان على الحياة:
ونشهده في موقف علي ابن أبي طالب حينما تشاورت قريش ليلة بمكة للتخلص من رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام، فقال بعضهم : أوثقوه . وقال بعضهم : اقتلوه أو اخرجوه، فأَطلع الله نبيه على ذلك، فبات علي رضي الله عنه على فراش النبيّ صلَّى الله عليه وسلّم تلك الليلة، وخرج عليه السَّلام حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليّاً يحسبونه النبيّ صلَّى الله عليه وسلّم، فلما أصبحوا ورأوا عليَّا رد الله مكرهم ...
من هذه النماذج الثلاثة التي عرضناها نرى أنَّ الربح والفوز والأمان والمعية الإلهية الدّالة على الهداية الرَّبانية ما هي إلاَّ نتيجة انتصار نور الإيمان على نزعات المال والحياة والعاطفة.
•انتصار الإيمان على العاطفة:
ونراه في قصة هجرة أم سلمة رضي الله عنها، وهي تحدثنا عن هجرتها فتقول: (لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره؛ ثم حَمَلني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، فلما رأته رجال بني المغيرة؛ قاموا إليه: فنـزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه، وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهط أبي سلمة، فقالوا: لا والله؛ لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموه من صاحبنا، فتجاذبوا بُنَىَّ سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة، فَفُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني، فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح؛ فما أزال أبكي حتى أمسي سنةً أو قريباً منها، حتى مر بي رجل من بني عمي، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تُخرجون هذه المسكينة! فَرَّقْتُم بينها وبين زوجها وبين ولدها! فقالوا: الحقي بزوجك إن شئت، وَرَدَّ بنو عبد الأسد عند ذلك ابني. فرحلت بعيري، ووضعت ابني في حجري، ثمَّ خرجت أريد المدينة، ولم يصحبني أحد من خلق الله).
من هذه النماذج الثلاثة التي عرضناها نرى أنَّ الربح والفوز والأمان والمعية الإلهية الدّالة على الهداية الرَّبانية ما هي إلاَّ نتيجة انتصار نور الإيمان على نزعات المال والحياة والعاطفة.
وكلما عشنا تحت ظلالها وأبصرنا دلالاتها .. تفيأنا من خيراتها وتقلبنا بين نعمائها ... فانطلقنا في مسيرة الحق طائعين راغبين لا نخاف بخساً ولا رهقاً.
اللَّهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى
مراجع:
مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار - أبو محمد عبد العزيز السلمان.
السيرة النبوية لابن هشام.
{youtube}FktqxCskDns{/youtube}