نظام الحكم بين الإسلام والثيوقراطية

الرئيسية » بصائر الفكر » نظام الحكم بين الإسلام والثيوقراطية
alt

الدولة الدينية، أو النظام الثيوقراطي، مصطلحات كثر تداولها خصوصاً بعد صعود الإسلاميين في بعض الدول العربية، وهي في غالبها تحمل طابع العداء للإسلاميين ولمشروعهم الذي اختارهم الشعب بناء عليه، ففي كثير من الأحيان خوّفت بعض وسائل الإعلام وبعض الشخصيات الناس من خطورة وصول الإسلاميين إلى سدَّة الحكم في بلدانهم، متذرّعة بأنهم لن يتنازلوا عن السلطة حال تسلمهم لها، وأنهم سيقيمون نظاماً أكثر استبداداً من الأنظمة الديكتاتورية القمعية، وكل ذلك في سبيل تنفير الناس عنهم، وبالتالي إلحاق الخسارة بهم، والسماح لأصحاب الأجندات الأخرى بالصعود مكانهم.

والحقيقة أن من يبحث في أصول وحقيقة كل من النظامين، يجد هناك فرقاً كبيراً بين مصطلحي نظام الحكم في الإسلام، والنظام الثيوقراطي أو الدولة الدينية .


حقيقة الثيوقراطية..
الأنظمة الثيوقراطية " تلك المذاهب القائلة بأن السلطة مصدرها من الله، وأن الدولة إنما هي نظام إلهي، أي نظام من صنع الله".
يرى خبير القانون الدستوري أ. د. عبد الحميد متولي أنَّ الأنظمة الثيوقراطية " تلك المذاهب القائلة بأن السلطة مصدرها من الله، وأن الدولة إنما هي نظام إلهي، أي نظام من صنع الله".

فهي عند القائلين بها حكومة الإله أو الآلهة، والذين يكونون ممثلين برجال أو زعماء روحيين مقدسين، وهؤلاء لهم حق الغفران والحرمان، وتجب لهم الطاعة المطلقة، ولا يقبل الاعتراض عليهم، وأقوالهم قوانين؛ لأنهم يمثلون الإرادة الإلهية .

وتعتبر هذه النظرية من أقدم النظريات السياسية التي لعبت دوراً مهماً في حياة الشعوب، فهي كانت سلاحاً بيد الحكام والملوك الأوروبيين المستبدين، في سبيل إحكام سيطرتهم على شعوبهم، وأخذ الولاء المطلق منهم، ومنعهم من معارضتهم أو منازعتهم في حكمهم وقراراتهم.

إلاَّ أنَّ أنصار المذهب الثيوقراطي ينقسمون إلى فريقين:
1-    فريق يأخذ بنظرية الحق الإلهي المباشر، ويرى هؤلاء أنَّ الدولة كانت من صنع الله بطريقة مباشرة، وأنَّ الله قد اختار الملوك مباشرة لحكم الشعب.
2-    فريق يأخذ بنظرية الحق الإلهي غير المباشر، ويرى هؤلاء أنَّ الدولة كانت من صنع الله بطريقة غير مباشرة، وأنَّ الله لا يتدخل مباشرة لاختيار السلطة الحاكمة، وإنما يتدخل بطريقة غير مباشرة عبر توجيه الحوادث توجيهاً من شأنه أن يؤدي إلى ذلك.

الهدف من الثيوقراطية هو تبرير السلطة التي يتمتع بها الحكام في مواجهة المحكومين، حتى تكون لتلك السلطة قداسة في نفوس الناس، بحيث لا يُسأل أصحاب السلطة أمام شعوبهم وإنَّما يسألون أمام الله.
لكن رغم الخلاف حول ماهيتها بين أنصارها، إلاَّ أنَّ غاية هذه النظرية الأساسية تبرير السلطة التي يتمتع بها الحكام في مواجهة المحكومين، حتى تكون لتلك السلطة قداسة في نفوس الناس، بحيث لا يُسأل أصحاب السلطة أمام شعوبهم وإنَّما يسألون أمام الله.

وقد درج الكثير من علماء القانون الدستوري على تسمية مثل هذا النوع من الأنظمة بالنظام الديني، وهي تسمية لاقت رفضاً من قبل بعض فقهاء القانون للأمور التالية:

1- إنَّ اصطلاح المذاهب الدينية ليس الترجمة الصحيحة لهذا المصطلح الفرنسي. وإنَّما الأصح أنها الحكومة التي تدعي أنَّها تحكم بمثابة عن الله، وليس من الضروري أن تكون دينية.
2- كما أنَّ هذا المذهب لا يستند إلى دين، بل الأصح أنه ضد الدين؛ لأنه يدعو إلى دعم وتبرير الاستبداد، وهذا لا يتفق مع المبادئ العامة للديانات السماوية، ولا يعقل أن يكون الدين مصدر شقاء وظلم للناس.
3- إضافة لذلك فهي عبارة عن خرافات نسجها العقل البشري ونسبها ظلماً وزوراً إلى الدين، واستغلتها طائفة من الناس للاستئثار بالحكم، فلا يجوز وصفها بالدينية.

الثيوقراطية والإسلام
الإسلام خالٍ عن الكهانة، وليس له هيئة خاصة لها حق احتكار الشريعة، أو أنها تتمتع بخصائص روحية، وإيضاح قوانينه ليس حكراً على أسرة معينة، بل يشرحه كل من بلغ رتبة الاجتهاد.
وبناءً على ما سبق، يظهر أنَّ ما تذهب إليه هذه النظرية، لا يمكن أن يتفق مع التشريع الإسلامي ونظام الحكم فيه، للأمور الآتية:

1-    الإسلام خالٍ عن الكهانة، وليس له هيئة خاصة لها حق احتكار الشريعة، أو أنها تتمتع بخصائص روحية، وإيضاح قوانينه ليس حكراً على أسرة معينة، بل يشرحه كل من بلغ رتبة الاجتهاد. لكن في الوقت نفسه لا يحق لمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد أو لم يملك فهماً صحيحاً للنصوص الشرعية ومقاصدها بحدها الأدنى، أن يفسرها بما يتماشى مع أهوائه تماماً كحال من يريد أن يجعل الدين مطية لتحقيق رغباته ومطامعه.

2-    الإمام منفذ للشريعة، وهو خاضع لأحكامها والأمة لها حق توليته وعزله. وتسميته باسم الخليفة معناه أنَّ خلافة المسلمين العمومية أصبحت مركزة في ذاته، وليس له فضل على جمهور المسلمين في القانون، بل هو رجل من الرجال، يوجه له النقد على أخطائه من قبل العامة، ويعزل إذا شاءت الأمة، ولهذا فالحاكم واحد من الأمة، وليس له سلطة دينية. ولهذا يقول د. فتحي الدريني في كتابه ((خصائص التشريع الإسلامي)): " الحاكم الأعلى في الدولة – في نظر الإسلام- لا يستمد ولايته من قوى غيبية، إذ ليس له من سلطان ديني على الناس، يتصرف أو يتحكم بموجبه في مصائرهم دنيوياً وأخروياً، بمقتضى ما يسمى بالحق الإلهي المقدَّس، ودون أن يسأل عما يفعل، بل هو فرد عادي، يستمد ولايته من الأمة التي اختارته عنها بمحض اختيارها الحر، وهو مسؤول أمامها، فضلاً عن مسؤوليته الدينية أمام الله تعالى، والأمة هي صاحبة المصلحة الحقيقية".

3-    كما أنَّ هذه الفكرة تتعارض مع الفكرة الإسلامية، فلقد كان من أغراض رسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- محاربة تأليه الأشخاص في صوره المختلفة. وقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نصوص تؤكّد على صفته كإنسان، وأنه عبد لله، إلى جانب كونه نبياً ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله" (رواه البخاري). بل إنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد حرص على تذكير أصحابه بأنهم لا يجوز لهم أن ينتحلوا صفة دينية تجعلهم يتصرفون كممثلين لله أو رسوله  -صلى الله عليه وسلم- ومن ذلك قوله -عليه الصَّلاة والسَّلام- لأحد أصحابه: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك على أن تجعل لهم ذمَّة الله وذمَّة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك". (رواه مسلم).


الدولة  الدينية والمدنية
تبيَّن من خلال ما سبق أنَّ مسمَّى الدولة الدينية لا ينطبق على المذاهب الثيوقراطية المستبدة؛ نظراً لأنَّ تسميتها بالمذاهب الدينية هي تسمية مسيئة للأديان، فلا يوجد دين يرضى بإهدار كرامة الشعوب، ومصادرة إنسانيتهم، وإنما هذه هي مذاهب شيطانية غايتها تثبيت دعائم السلطة بالخرافات والأساطير والغيبيات.

أمَّا الدولة الإسلامية، وتلك الأنظمة التي يسعى الإسلاميون لإقامتها، فهي قد ثار حول ماهيتها جدل كبير، وتنازع فيها الكثير من الشرعيين وفقهاء القانون بين كونها دينية أو مدنية، والحقيقة أنَّ القائلين بأنَّها دولة دينية، وهم بعض المفكرين الإسلاميين، يرون أنَّ الدولة الإسلامية دولة تقوم على أحكام الدين ولأجل الدين، ويرجع مصدرها إلى أحكام القرآن والسنة، إلاَّ أنَّها ليست محصوراً بيد فئة معينة، بل هو للمسلمين عامة وهم الذين يتولون القيام بشؤونه وفق ما ورد في كتاب الله تعالى وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم.
الخلاف السابق حول دينية أو مدنية الدولة الإسلامية هو خلاف لفظي، فالجميع يتفقون على أنَّ النظام يستند إلى النصوص الشرعية من القرآن والسنة النبوية، كما أنَّ ليس فيه احتكار على جماعة من الناس، ويقرّ الحقوق ويعبّر رأي الأمة في الاختيار والعزل.
أمَّا القائلون بأنها دولة مدنية، فحجتهم أنَّ نظام الحكم يحكم بالإسلام ويقوم على البيعة والشورى، ويضمن الحقوق والحريات لجميع الأفراد، ويختار رجاله وأفراده بناء على أهليتهم وقدرتهم على إدارة المنصب.

والحقيقة أنَّ الخلاف السابق هو خلاف لفظي، فالجميع يتفقون على أنَّ النظام يستند إلى النصوص الشرعية من القرآن والسنة النبوية، كما أنَّ ليس فيه احتكار على جماعة من الناس، ويقرّ الحقوق ويعبّر رأي الأمة في الاختيار والعزل.

أمَّا تفسير البعض - كما هو حال بعض الاتجاهات-  للدولة المدنية على أنَّها دولة غير محكومة بدين، وليس له سيادة على قوانينها، ولا يحق أن يكون له أيّ علاقة بدستورها وتشريعاتها، فهذا لا يندرج تحت الخلاف السَّابق؛ لأنَّ الدولة المقصودة برأيهم هي دولة ملحدة لا دينية، وليست دولة مدنية يكون الدين مرجعيتها وأساس تشريعها وسيادتها.

وختاماً، فليست كل المصطلحات السياسية والقانونية المعاصرة أصول ينبغي قولبة الإسلام في قوالبها وإدراجه تحتها، فالنظام الإسلامي له خصوصياته وما يميّزه عن غيره من النظم السياسية الأخرى، يقول محمد أسد في كتابه منهاج الإسلام في الحكم :" إنَّه من باب التضليل المؤذي إلى أبعد الحدود أن يحاول الناس تطبيق المصطلحات التي لا صلة لها بالإسلام على الأفكار والأنظمة الإسلامية. إنَّ للفكرة الإسلامية نظاماً اجتماعياً متميّزاً خاصاً بها وحدها يختلف من عدة وجوه عن الأنظمة السائدة في الغرب، ولا يمكن لهذا النظام أن يدرس ويفهم إلاَّ في حدود مفاهيمه ومصطلحاته الخاصة" .

----------------------
مراجع إضافية:
1-    نظرية الإسلام السياسية/ أبو الأعلى المودودي.
2-    النظم السياسية/ محمد كامل ليلة.
3-    الوجيز في النظريات والأنظمة السياسية/ عبد الحميد متولي.
4-    من فقه الدولة / يوسف القرضاوي.
5-    منهاج الإسلام في الحكم / محمد أسد.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب فلسطيني، حاصل على الدكتوراه في الفقه وأصوله، متخصص في موضوع السياسة الشرعية والتربية والتعليم.

شاهد أيضاً

التدجين الناعم: كيف يُختطف وعي الأمة؟ (2-2)

تحدثنا - بفضل الله تعالى- في الجزء الأول من هذا الموضوع عن:- توطئة عن الموضوع. …