الحكم في الإسلام بين صلاح الدين وسياسة الدنيا

الرئيسية » بصائر الفكر » الحكم في الإسلام بين صلاح الدين وسياسة الدنيا
alt

من بين العديد من الشبهات والأراجيف التي يثيرها أعداء المشروع الصحوي الإسلامي الصاعد من الليبراليين والعلمانيين وقوى الفساد والاستبداد في الداخل، وقوى الاستكبار العالمي في الخارج، أن الإسلام لا يعرف السياسة ولا يجيد التعامل معها، وأن تولي القوى الإسلاميَّة لشؤون الحكم؛ سوف يؤدي إلى وصول قوى لا يوجد لديها تراث حقيقي في الحكم وفق قواعد العمل السياسي الحداثي الذي يراعي مستجدات عدة، مثل حقوق الإنسان والأقليات.

ويرى هؤلاء أن قواعد الإمارة في دولة الإسلام لا تصلح للتطبيق في إطار آليات وميكانيزمات عمل الدولة القوميَّة القُطْرية، متناسين تراث أكثر من 1400 سنة من حكم دولة الخلافة- أيًّا كانت هويتها- ومن قبلها دولة المدينة الأولى، التي أسسها وأدارها الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".

كما ينحو البعض إلى القول بأنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، باعتبار إما أن الدين- تعالى الله عما يصفون- قاصر عن القيام بأعباء السياسة والحكم، وأنه عبارة عن مجموعة من الأحكام الروحيَّة التي تخص العلاقة بين العبد وربه فقط، أو أن السياسة تعرف بطبيعتها الكثير من الأمور التي تخرج عن النزاهة، وهو ما يجب تجنيب الدين له، وتنزيهه عنه.
إن الإسلام دين شامل، وضع قواعد لكل شيء؛ بدءًا من تنظيم حياة الإنسان اليوميَّة وسلوكياته العامة، وصولاً إلى إدارة شئون الجماعة البشريَّة وسياستها، وإقامة شريعة الله سبحانه وتعالى في أرضه، وإقامة شعائره والدعوة إلى دينه الحق، الإسلام، في مختلف أرجاء الأرض.
وبداية من صفوة القول إن الإسلام دين شامل، وضع قواعد لكل شيء؛ بدءًا من تنظيم حياة الإنسان اليوميَّة وسلوكياته العامة، وصولاً إلى إدارة شئون الجماعة البشريَّة وسياستها، وإقامة شريعة الله سبحانه وتعالى في أرضه، وإقامة شعائره والدعوة إلى دينه الحق، الإسلام، في مختلف أرجاء الأرض.

كما إننا في الإطار، يجب التمييز ما بين مصطلح "تسييس الدين" الذي يعني استغلال الدين في الأمور السياسيَّة، وتوظيفها لمصلحة الحاكم، ومصلحة النخبة الحاكمة، بما يخالف صحيح شرع الله عز وجل ومقاصده، وبين مصطلح آخر، وهو "تديين السياسة"، والذي يعني ببساطة تطبيق قواعد السياسة الشرعيَّة، التي تقوم على أساس قواعد أخلاقيَّة مجردة، وتجعل من السياسة أداة خادمة للدين.

ونقول أيضًا إن الإسلام وضع أسسًا وقواعد لعمليَّة الحكم وإدارة شئون الرعيَّة وسياستها، شملت مختلف أصول وقواعد الحكم، بما في ذلك احترام حقوق الإنسان والأقليات، وهذا معروف تاريخيًّا، وليس بحاجة إلى إثبات؛ فلو أن دول الخلافة لم تعرف قواعد الحكم الرشيد؛ ما استمرت كل هذه القرون.

والحكم، وبالتالي الدولة في الإسلام، ليس فحسب أمرًا تستلزمه طبيعة العمران البشري؛ بل هو أيضًا أمر ضروري، دعت إليه الشريعة، وجعلته من الأصول.

وللحكم في الإسلام خصوصيَّة عن غيره من أنواع الحكم في العمران البشري، فدولة الإسلام لا تقوم على تحقيق الأهداف الدنيويَّة التي تقوم الدول لتحقيقها، وتسعى أنظمة الحكم القائمة للقيام بها، من حفظ الأمن، وتوزيع الثروة والموارد، وتحسين مستوى التعاون بين المجموعات البشريَّة المختلفة؛ وإنما تقوم الدولة لأمور رساليَّة أخرى أكبر وأهم، بجانب هذه المهام بطبيعة الحال، مثل نشر دعوة الإسلام، وحماية الشريعة وتوفير البيئة اللازمة لتطبيقها.

كما أن طبيعة الدولة في الإسلام مختلفة عن طبيعة الدولة القوميَّة العادية، في أصولها ومرتكزات تأسيسها ويقول ابن خلدون في مقدمته، إن إقامة الحكم أو الدولة يعني "خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به"، وأن الغاية الأساسيَّة للدولة في الإسلام "حمل الكل على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخرويَّة والدنيويَّة الراجعة إليها".

والحكم الصالح في الإسلام ضرورة شرعيَّة، ومن الأمور الكُليَّة.. يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)﴾ [سُورة "البقرة"].. وهذه الآية تشير إلى أن الله تعالى يبغض الحُكَّام المفسدين، وعبارة ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ تؤكد على أن الحكم الصالح أحد أهم الأمور التي أكد عليها الشارع الأعظم.

وهناك أدلة في القرآن والسُّنَّة تؤكد على أن الحكم في الإسلام ليس فقط من الضرورات، وإنما هو من بيِّنات الفطرة الإنسانيَّة، فيقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [سُورة "النساء"- من الآية "59"]، بينما يقول الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" في الحديث الموقوف عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب "رَضِيَ اللهُ عَنْه": "إِذَا كُنْتُمْ ثَلاثَةً فِي سَفَرٍ فَأَمِّرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدَكُمْ" [أخرجه البزار والحاكم].

والآية والحديث ينطلقان من حقيقة بديهيَّة مفادها، أن الإنسان كائن اجتماعي، ولابد له من العيش مع الآخرين- في أي صورة من الصور- من أجل التعاون وتبادل المصالح والمنافع وقضاء الحاجات، وهو ما قد يقود إلى التنافس والتنازع، مع ندرة الموارد أن تبايُن المصالح، ومن ثَمَّ فقد أوجبت الفطرة التي خلقها الله، أن تكون هناك سلطة حاكمة تنظم شئون الإنسان، وعلاقاته مع الآخرين.

وعلى أهميَّة ذلك؛ فإن أول ما قام به الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، بعد هجرته "عليه الصلاة والسلام"، من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، هو أن أقام دعائم الدولة، على إدراكه أنه لن يمكن القيام بدوره الرسالي من دون دولة، وكان أول ما أقره كقائد لهذه الدولة، هو دستورها ممثلاً في وثيقة المدينة المنورة.

وبالفعل؛ فإن الرسول "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، ظل في مكة يدعو الناس لمدة 13 عامًا بشكل يخلو من مؤسسيَّة الدولة، وهو أمر طبيعي فرضته طبيعة المرحلة؛ فلم يُسلم معه سوى بضعة وسبعون رجلاً وامرأتان، بينما قادت دولة المدينة الإسلام إلى أن يسود شبه جزيرة العرب في عشر سنوات فحسب، ثم دولة الخلافة الراشدة، وفي ثلاثين عامًا، كان الإسلام يسود العالم القديم بأسره.

وعلى إدراك الصحابة "رَضِيَ اللهُ عَنْهم" لأهميَّة الحكم واستقرار الدولة في حماية الدين والدنيا، كان أن سارعوا إلى عقد اجتماع سقيفة بني ساعدة الشهير فور الانتهاء من دفن الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، من أجل اختيار خليفة له.

ومن بين أهم أدلة أهميَّة الحكم الرشيد في الإسلام، هو التطابق القائم ما بين مقاصد الحكم والدولة مع مقاصد الشريعة ذاتها، في حفظ الدين، بما في ذلك إقامة المنهج الإسلامي وجعل الحاكميَّة لله، وضمان استمرار دين الله تعالى، من خلال الدعوة إليه، وقبل ذلك حماية الكيان المسلم أولاً.

وكذلك فإنه من بين أهم مقاصد الحكم، سياسة الدنيا من خلال حفظ النفس والمال والعرض والنسل، من خلال حماية الأمن بمعناه المباشر الداخلي والقومي، والأوسع ممثلاً في الأمن المجتمعي، وإقامة العدل بين الناس، مهما كانت ملتهم أو كان انتماؤهم العرقي أو القومي؛ لتفادي حدوث مشكلات بين أطياف المجتمع المسلم.

وفي الختام، يقول الباحث الليبي سالم القمودي، إن قيام الحكم الإسلامي الأصيل ليس في حقيقته حلمًا بعيد المنال، أو أملاً لا يُرجى تحققه، ولكن لذلك شروط، من بين أهمها تخلُّص المسلمين من الخوف، الخوف من أنفسهم ومن المسلمين الذين يريدون أن تحكمم الحقيقة الدينيَّة مجتمعاتهم الإسلاميَّة، وتخلص المسلمين من الوهم والوهن الذي يزرعه فيهم الآخرون، ويزرعه بعضهم في جماعة المسلمين!
لن يتحقق الحكم الإسلامي الأصيل، إلا إذا ما تحقق العدل بين أفراد المجتمع وجماعاته، ولن يؤتي ثماره إلا من خلال تقاليد سياسية ديمقراطية، ونظم قانونيَّة اجتماعيَّة، واعتراف متبادل بين مختلف الأحزاب والتنظيمات والسلطات.
كما يجب التأكيد على ضرورة توحُّد المسلمين، فلا ينقسموا بين علماني ومستغل للسلطة، أو متطرف يتخذ من الشطط والغلو منهجًا، ومن العنف أسلوبًا، كما إنه لن يتحقق الحكم الإسلامي الأصيل، إلا إذا ما تحقق العدل بين أفراد المجتمع وجماعاته، ولن يؤتي ثماره إلا من خلال تقاليد سياسية ديمقراطية، ونظم قانونيَّة اجتماعيَّة، واعتراف متبادل بين مختلف الأحزاب والتنظيمات والسلطات.

وما على المسلمين، إلا العمل على إكمال البناء الفكري السياسي المتكامل للدولة الإسلاميَّة المعاصرة، عبر صياغة نظرية إسلاميَّة معاصرة في السياسة والحكم.

{youtube}MH5wLfM9hZY{/youtube}

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …