يبدو أنَّ ظاهرة الاستقرار الأسري التي نفاخر بها كمجتمعات عربية و مسلمة أصبحت في طريقها للاندثار بعد أن ارتفعت نسب الطلاق في البلاد العربية بشكل غير مسبوق؛ حيث أظهرت إحدى الدراسات لدائرة الإحصاء المصرية أنَّ حالة طلاق تقع في مصر كلِّ خمس دقائق، و أنَّ مصر تحتل المرتبة الأولى في قائمة الدول العربية بأعلى معدل للطلاق تتلوها الأردن فالسعودية ثمَّ الإمارات و باقي الدول الخليجية فالمغرب، و أنَّ الفئة العمرية من 25-30 حصدت أعلى نسبة في وقوع الطلاق، و ليس صحيحاً ما يشاع أنَّ الأسباب الاقتصادية هي السبب الرَّئيسي وراء ارتفاع نسب الطلاق، فالأسباب المادية كما أظهرت الدراسة تشكل ما نسبته 40% من أسباب الطلاق بينما النسبة الأكبر هي لقلة الوعي الديني و الزوجي و الضغوط الاجتماعية.
و تُتهم فئة الشباب أنَّها تقبل على الزواج دون إدراك للمسؤوليات التي تكتنفه، و أنَّ محرّك العواطف هو في الأغلب الأعم وراء اختيار الزّوج و الزوجة، عواطف لا تلبث أن تحتوشها هموم الحياة و تدخلات الأهل فلا تبقي منها شيئاً و لا تذر، و بقدر ما إنَّ الحب عامل مهم في الزواج، و لكنَّه ليس العامل الوحيد و الضمان لاستمراريته، فوهج حب ما قبل الزواج و المرء خال البال و الجيب عامر و كلمات الغزل عنوان المرحلة ما يلبث أن يهدأ بعد مجيء الأطفال و توسع الأنساب و العلاقات ليصبح اكثر عقلانية و نضجا ، و قد جاء رجل يشكو الى سيدنا عمر رغبته في طلاق زوجته لانه لم يعد يحبها، فاستنكر سيدنا عمر منطقه قائلا: أقل البيوت تُبنى على الحب، و لكن الناس يتعاشرون بالاسلام و الأحساب، و لكن هذا المنطق الرشيد يحتاج أزواجاً لا يرون في الزَّواج منفعة من جانب واحد أو ملهاة و تسلية أو قضاء للحاجة.
و بقدر ما يحتاج الزواج الى التقوى في أوله يحتاج إلى تقوى أكبر إذا انتهى، فقد سمَّى العلماء سورة الطلاق بسورة النساء الصغرى لما فيها من تأكيد على مراقبة الله و حفظ حقوق النساء و حرمتهن لأنَّهن الطرف الأضعف في معادلة الطلاق، فطلاق المراة نوع من الكسر لها حتى و لو كان هرباً بالروح من رجل ظالم لا يرحم المراة حتى تتنازل له عن ثوبها، و مجتمع ظالم يرى المرأة دائماً مسؤولة عن وقوع الطلاق.
والطلاق في إحدى تعريفات القرطبي : "حل العصمة بين الأزواج" أي ميثاق الله الغليظ بينهما، و الطلاق الذي يتساهل الرجال في إيقاعه ثلاث مرات في مرَّة واحدة تعجّلاً و غضباً و جهالة من انتصارات إبليس عليهم فقد ورد في الحديث : ""إن إبليس يضع عرشَه على الماء ثم يبعث سراياه، فأدناهم منزلةً أعظمهم فتنةً، يجيء أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول له: ما صنعتَ شيئًا، قال: ويجيء أحدهم فيقول: ما تركتُه حتى فرَّقتُ بينه وبين أهله. قال: فيُدنِيه، أو قال: فيَلْتَزِمُه ويقول: نعَم أنتَ" .
وبالرَّغم أنَّ الإسلام جاء وسطاً في تحليل الطلاق مع ضبطه فتقدم على الجاهلية التي كان الطلاق فيها غير محدود بعدد و لا ضابط و لا حقوق ، و تقدّم على النصرانية التي حرمت الطلاق بالرغم من حاجة الأزواج إليه في حالة استحالة استمرار الحياة الزوجية، فألجأت أتباعها الى التحايل على الدين و الانفصال المدني أو تعدّد الخليلات.
و لكن الإسلام جعله حلالاً بغيضاً، و ظلال الكلمة و الفعل تساوي العلاج بالنار و الكي الذي لا يلجأ إليه المرضى إلا في حالة اليأس، بل زاد الاسلام أن جعل ميزان الأزواج في الإقدام أو الإحجام ميزان التقوى؛ و هذه تكون بين العبد و ربه لا يطلع عليها ملك فيكتبها و لا شيطان فيفسدها، بل و جعل من الطلاق ما هو محرم إذا كانت المرأة قائمة بحقوق زوجها و بيتها، و عاقبة من يقدم عليه دون سبب عاقبة الظالم الغاشم.
إنَّ تدخل الأهل من الطرفين من الأسباب التي تساق في تبرير ارتفاع نسب الطلاق ، و هي من جهل الأهالي و الأزواج، فالأهل جعلهم الله حكما و سطا للاصلاح لا الدفع باتجاه الكارثة ، كما أنَّ على الأزواج أن يمنحوا أسرهم استقلالية في الحياة و القرار بعيداً عن تدخل الأهل مع استمرار برهم، و حوادث السيرة تروي أنَّ أبا بكر طلب من ابنه عبد الله أن يطلق زوجته عاتكة بنت زيد و كان يحبها فغلبته على رأيه و شغلته عن سوقه، فاستجاب طاعة لوالده، فوجد عليها و أنبته نفسه اللوامة لما عرف من صلاحها فقعد لأبيه و هو يريد الصَّلاة فلمَّا أبصر أبا بكر بكى و أنشأ يقول:
و لم أر مثلي طلق اليوم مثلها و لا مثلها في غير جرم تُطلق
لها حسن جزيل و حلم و منصب و خلق سوي في الحياة و مصدق
فرَّق له أبو بكر و أمره بمراجعتها.
والأسرة بمعناها اللغوي تعني الدّرع الحصينة، و هي من الأسر بمعنى القوَّة، و الأسرة رهط المرء بهم يشتد عوده و أزره، و هي كذلك الدرع الحصينة لحماية المجتمع من التفكك، لذا وضع الإسلام كل السبل و الحواجز ليحول دون انهيارها مرة بعد مرَّة إلى الثلاث ، و جعل الطلاق أمرا مغلظا لا هزل فيه حتى يحفظ للمرأة كرامتها و استقرارها النفسي، و المفروض في الرجل طبيعة أنه أوسع صدرا يأتمر بعقله لا قلبه لذا جعل الاسلام العصمة في يده، فالمرأة قد تطلب الطلاق غضبا و لكنها تتوقع من زوجها حرصاً و تمسكًا، و لكن الأمر انقلب كما تظهر الدراسة محل النقاش، إذ أصبحت الزَّوجات أكثر حرصا على عدم وقوع الطَّلاق و التمسك بالأسرة مخافة من تبعات الطلاق أسرياً و اجتماعياً، و أصبح الأزواج أقل مراعاة و أكثر نزقاً و رعونة.
لقد صار كثير من الأزواج يرون في الزواج ألعوبة و كذلك الطلاق، فيطلق الزوج عن اليمين و الشمال، و على أتفه الأسباب، و على الدخول و الخروج، و مآدب الطعام و استبقاء الضيف، ثم يخاف العاقبة فيركض الى الشيوخ ليجد مخرجا عندما لا ينفع الندم، فيهدم بناء السنين بنوبة غضب أو زلة جهل، والتاريخ يعيد نفسه فقد كان الرجال يأتون ابن عبَّاس يسألونه في أمر الطلاق و مخارجه، فيرد عليهم: أيرتكب أحدكم أحموقته ثمَّ ينادي: يا ابن عباس ؟!
نعم، فما زيادة نسب الطلاق إلاَّ كناية عن زيادة حماقة المجتمع و بالذات الرجال فالأمر بيدهم، حماقة لا يتأثر بها طرفين فقط، بل أولاد و أسرة و مجتمع، مجتمع عربي كنا نأمل أن يحصل السبق في إحصائيات و دراسات من شأنها أن تساهم في عمارة الأرض و تقدّم الإنسان لا خذلانه و انتكاسه.
و إذا كان النكاح من سنة الرَّسول صلّى الله عليه و سلّم المحبّبة، فكيف يُوصف الطّلاق البغيض؟ و إذا كان الرَّسول يباهي بالأزواج، فما موقفه من المطلِقين في غير بأس شديد و سبب تهون معه الحياة ؟
لقد استغاث الشاعر بخالد بن الوليد عندما توقف المجتمع عن انجاب رجال مجاهدين أصحاب همة يحملون السيف دفاعا عن امتهم فقال:
يا ابن الوليد ألا سيفا تؤجره فكل أسيافنا قد أصبحت خشباً
و يبدو أننا بحاجة أن نستغيث بابن عبَّاس، أو بمن في مثل عقله لحل مشكلات الزَّواج و الطلاق، فالأسرة هي الدّرع الأخير و سقوطها هدم للأمَّة و ضياع للوطن.
فيا ابن عبَّاس ألا عقلا تؤجره فعقول رجالنا قد أصبحت عدماً
{youtube}lEgPmY2pHhw{/youtube}