إنَّ الرّابطة الحقيقية التي تجمع المؤمنين قاطبة هي رابطة الدين والعقيدة، وإنَّ تلك الرابطة تتلاشى معها جميع الرَّوابط النسبية والعصبية والقبلية والقومية وغيرها من الوشائج الدنيوية الزائلة، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} . فروابط الدم والقرابة هذه تتقطع عند حدِّ الإيمان؛ إنها يمكن أن تراعى إذا لم تكن هناك محادة وخصومة بين اللوائين: لواء الله ولواء الشيطان، وحتَّى الصحبة بالمعروف للوالدين المشركين مأمور بها حين لا تكون هناك حرب بين التوحيد والشرك.
فأمَّا إذا كانت المحادة والمشاقة والحرب والخصومة فقد تقطعت تلك الأواصر التي لا ترتبط بالعروة الواحدة وبالحبل الواحد .
فلا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر، لكنها زائلة غير نافعة يوم القيامة إذا لم تكن ممزوجة برابط التوحيد ووشيجة العقيدة والإيمان
ولقد قتل أبو عبيدة أباه في يوم بدر، وهمَّ الصديق أبو بكر بقتل ولده عبد الرَّحمن، وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير، وقتل عمر وحمزة وعلي وعبيدة والحارث أقرباءهم وعشيرتهم، كانوا في ذلك متجرّدين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة . وكان هذا أبلغ ما ارتقى إليه تصور الرَّوابط والقيم في ميزان الله.
فلا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر، لكنها زائلة غير نافعة يوم القيامة إذا لم تكن ممزوجة برابط التوحيد ووشيجة العقيدة والإيمان، قال الله تعالى:{ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. وقال تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} . وقال سبحانه: { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }.
بين سورتين في القرآن ..
قال الإمام البقاعي في كتابه (نظم الدرر): (افتتحت أي سورة الممتحنة - بوصية المؤمنين على ترك موالاة أعدائهم ونهيهم عن ذلك وأمرهم بالتبرؤ منهم ، وهو المعنى الوارد في قوله خاتمة المجادلة : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله له ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم } إلى آخر السورة ، وقد حصل منها أن أسنى أحوال أهل الإيمان وأعلى مناصبهم .. {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} .
فوصى عباده في افتتاح الممتحنة بالتنزه عن موالاة الأعداء ووعظهم بقصة إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام والذين معه في تبريهم من قومهم ومعاداتهم، والاتصال في هذا بين، وكأنَّ سورة الحشر وردت مورد الاعتراض المقصود بها تمهيد الكلام وتنبيه السامع على ما به تمام الفائدة لما ذكر أنَّ شأن المؤمنين أنَّهم لا يوادُّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا أقرب الناس إليهم، اعترض بتنزيهه عن مرتكباتهم، ثمَّ أتبع ذلك ما عجّله لهم من النقمة والنكال، ثمَّ عاد الأمر إلى النهي عن موالاة الأعداء جملة له .
قال الله تعالى : {لاَ تَتّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يأْلُونَكُمْ خَبَالاً}. قال ابن عاشور في التحرير والتنوير : (الآن إذ كشف الله دخائل من حول المسلمين من أهل الكتاب، أتم كشف، جاء موقع التحذير من فريق منهم، والتحذير من الاغترار بهم، والنهي عن الإلقاء إليهم بالمودة، وهؤلاء هم المنافقون).
إنَّ بطانة الرَّجل صفيه وخليصه الذي يبطنه ويطلع على أسراره ، ولا يمكن وجود مثل هذا الصديق إلاَّ إذا اتحدا في المقصد واتفقا في الدين والصفة
فقوله تعالى : { بِطَانَةً} .. البطانة بكسر الباء في الأصل داخل الثوب، وجمعها بطائن، وفي القرآن {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} (الرَّحمن: 54)، وظاهر الثوب يسمَّى الظهارة بكسر الظاء والبطانة أيضاَ الثوب الذي يجعل تحت ثوب آخر . قال الإمام الزمخشري: (بطانة الرجل ووليجته : خصيصه وصفيّه الذي يفضي إليه بشُقُوره ثقة به . شبه ببطانة الثوب، كما يقال : فلان شعاري - انتهى - ومن أمثال العرب في سرار الرجل إلى أخيه ما يستره عن غيره: أفضيت إلي بشقوري - بضم الشين وقد تفتح - أي : أخبرته بأمري، وأطلعته على ما أسره من غيره . وفي القاموس وشرحه : البطانة : الصاحب للسر الذي يشاور في الأحوال ، والوليجة : وهو الذي يختص بالولوج والاطلاع على باطن الأمر).
وقال القاشاني : إنَّ بطانة الرَّجل صفيه وخليصه الذي يبطنه ويطلع على أسراره ، ولا يمكن وجود مثل هذا الصديق إلاَّ إذا اتحدا في المقصد واتفقا في الدين والصفة، متحابين في الله لغرض . كما قيل في الأصدقاء : نفس واحدة في أبدان متفرِّقة . فإذا كان من غير أهل الإيمان ، فبأن يكون كاشحاً أحرى.
وقوله تعالى: {مِنْ دُونِكُمْ} يشمل المشركين والمنافقين وأهل الكتاب. ففي هذه الآية تحذير للمسلمين من مخالطة الكافرين والمنافقين والركون إليهم.
ثمَّ بيَّن نفاقهم واستبطانهم العداوة بقوله: { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } أي : لا يقصرون بكم في الفساد.
وعلَّل ذلك الإمام القاشاني بقوله: (لأنَّ المحبَّة الحقيقية الخالصة لا تكون إلاَّ بين الموحدين لكونها ظل الوحدة . فلا تكون في غيرها لكونهم في عالم التضاد . بل ربما تتألفهم الجنسية العامة الإنسانية لاشتراكهم في النوع والمنافع ، والملاذ واحتياجهم إلى التعاون فيها. والمنافع الدنيوية واللذات النفسانية سريعة الانقضاء، فلا تدوم المحبة عليها، بخلاف المحبة الأولى فإنها مستندة إلى أمر لا تغير فيه أصلاً) .
قال الإمام جمال الدّين القاسمي: (وممَّا يؤكّد ذلك ما رواه ابن أبي حاتم أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنَّ ههنا غلاماً من أهل الحيرة نصرانياً ، حافظ كاتب ، فلو اتخذته كاتباً ؟ فقال : قد اتخذت إذن بطانة من دون المؤمنين). قال الرازي : فقد جعل عمر رضي الله عنه هذه الآية دليلاً على النهي من اتخاذ النصراني بطانة ).
والمسلمون في غفلة عن أمر ربهم: ألا يتخذوا بطانة من دونهم . بطانة من ناس هم دونهم في الحقيقة والمنهج والوسيلة . وألا يجعلوهم موضع الثقة والسر والاستشارة . .
وقال الإمام ابن كثير : (ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أنَّ أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، وإطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب).
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ} نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن موالاة الكفار، ولو كانوا أقرباء، وصرَّح في موضع آخر: بأن الاتصاف بوصف الإيمان مانع من موادة الكفار ولو كانوا أقرباء {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. (المجادلة :22).
يقول صاحب الظلال: (جاء هذا التنوير، وهذا التحذير، يبصِّر الجماعة المسلمة بحقيقة الأمر، ويوعيها لكيد أعدائها الطبيعيين، الذين لا يخلصون لها أبداً ، ولا تغسل أحقادهم مودة من المسلمين وصحبة. ولم يجيء هذا التنوير وهذا التحذير ليكون مقصوراً على فترة تاريخية معينة، فهو حقيقة دائمة، تواجه واقعاً دائماً . . كما نرى مصداق هذا فيما بين أيدينا من حاضر مكشوف مشهود ..
والمسلمون في غفلة عن أمر ربهم: ألا يتخذوا بطانة من دونهم . بطانة من ناس هم دونهم في الحقيقة والمنهج والوسيلة . وألا يجعلوهم موضع الثقة والسر والاستشارة . . المسلمون في غفلة عن أمر ربهم هذا يتخذون من أمثال هؤلاء مرجعاً في كل أمر، وكل شأن، وكل وضع، وكل نظام، وكل تصور، وكل منهج، وكل طريق!).
{youtube}TFibaoOOw5o{/youtube}