ممَّا لا شك فيه أنَّ مصطلح الإصلاح والتغيير السياسي بات من المصطلحات الشائعة في وقتنا الحالي، خصوصاً بعد انطلاقة الربيع العربي – علماً أنَّه كان متداولاً من قبل - و الذي أعاد صياغة العلاقة التعاقدية بين الشعوب وحكامها، وأدّى إلى التجديد في الرؤية والطرح لنظرة الناس إلى حكامهم، وطبيعة واجباتهم، والحقوق التي لابد وأن توفرها الفئة الحاكمة لهم.
وبغض النظر عن اختلاف مطالب الشعوب في كل قطر من الأقطار، إلاَّ أنها تتفق في أسس عامة، هي الحرية بكافة أشكالها، وضمان الحقوق والحفاظ عليها، ومحاربة الفساد وما يتنافى مع تحقيق المساواة بينهم، وتحقيق العدل في جميع مناحي الحياة داخل الدولة.
ليس مصطلح الإصلاح والتغيير السياسي وليد الربيع العربي المبارك، وإن كان الربيع العربي قد ساهم في تسليط الضوء عليه بشكل أكبر، بل هو مطلب قديم، طالبت به الشعوب، و مورس من قبل كل شخص غيور على أمته، للنهوض بها حتى تستكمل أهدافها وتحقّق إنجازاتها التي تريدها وتنشدها.
وليس مصطلح الإصلاح والتغيير السياسي وليد الربيع العربي المبارك، وإن كان الربيع العربي قد ساهم في تسليط الضوء عليه بشكل أكبر، بل هو مطلب قديم، طالبت به الشعوب، و مورس من قبل كل شخص غيور على أمته، للنهوض بها حتى تستكمل أهدافها وتحقّق إنجازاتها التي تريدها وتنشدها.
المفهوم اللغوي والشرعي
حينما نستعرض المعاجم اللغوية نجد أنَّ أصل الإصلاح من كلمة (صلح)، وهو نقيض الفساد، ويدل على الإقامة والتوفيق والخير. وأصل التغيير من (غير)، ويدل على اختلاف الحال وتبدله. أمَّا السياسة، فأصلها من (سوس) وهي تدل على صلاح الشيء وحسن القيام به، أو فساده، أو على السجية والخلق.
وفي شريعتنا الإسلامية، نجد أنَّ مفردتي الإصلاح والتغيير، قد وردتا في كثير من النصوص الشرعية، ومنها:
- " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً" الأعراف 56
- " إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله" هود 88
- " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس" النساء 114
- " إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" الرعد 11
- " ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" الأنفال 53.
- " ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله" النساء 119.
ويظهر ممَّا سبق أنَّ الإصلاح صفة حسنة، ويدل دائماً على الصلاح، ولم يرد هذا المصطلح في القرآن إلاَّ ليدل على ما فيه خير ونفع. ولهذا عرَّف المفسرون الإصلاح بأكثر من مفهوم:
- قال القرطبي في تفسيره: " الإصلاح هو إصلاح الدنيا بالعدل والآخرة بالعبادة. وهو عام في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شيء يقع التداعي والاختلال فيه بين المسلمين، وفي كل كلام يراد به وجه الله تعالى".
- وقال الشيخ السعدي في تفسيره : " هو السعي في إصلاح عقائد الناس وأخلاقهم، وجميع أحوالهم، بحيث تكون على غاية ما يمكن من الصلاح، وأيضاً يشمل إصلاح الأمور الدينية، والأمور الدنيوية، وإصلاح الأفراد والجماعات، وضد هذا الفساد"
أمَّا مصطلح التغيير، فمن خلال التأمل في النصوص القرآنية، نجد أنه قد يكون محموداً، وقد يكون مذموماً، ولهذا لا يوصف التغيير دائماً بأنه تغيير للأحسن، بل قد يكون تحولاً للأسوأ.
التشريع الإسلامي اهتم كثيراً بتحقيق الإصلاح في جميع شؤون الحياة، وليس غرابة أن نقول بأنَّ الإسلام هو دين إصلاحي للنفوس والمجتمعات والأنظمة، وتنقية لها ممَّا علق بها من شوائب الشيطان وهوى النفس وحب الدنيا وغيرها.
و ليست مفردة الإصلاح متعلقة بالسياسة فحسب، بل نجد هناك الكثير من الاستخدامات لذات المفهوم في أبواب فقهية كثيرة، منها :
- إكمال النقص : كإصلاح الوضوء بغسل الجزء المتروك بالماء.
- التعويض عن الضرر: كوجوب الدية في الجنايات.
- تشريع الزكوات: إصلاحاً للفقير، وطهرة للمزكي.
- تشريع العقوبات: كالحدود والقصاص والتعزير لإصلاح المجتمع . قال تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)
- تشريع الكفارات: لإصلاح الخلل في بعض التصرفات، ككفارة اليمين والظهار وغيرها.
- منع التصرف لإيقاف الضرر: كعزل القاضي الذي لا يحسن القضاء، والحجر على السفيه.
- تشريع الولاية والوصاية والحضانة: لإصلاح المولى عليه أو ماله.
- الوعظ: كوعظ الزوجة التي يخاف نشوزها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره.
- التوبة: والتي يترتب عليها صلاح شأن الإنسان ومحو الذنوب عنه.
- إحياء الموات: عبر إصلاح الأرض غير المزروعة وغيرها.
ممَّا سبق يظهر أنَّ التشريع الإسلامي اهتم كثيراً بتحقيق الإصلاح في جميع شؤون الحياة، وليس غرابة أن نقول بأنَّ الإسلام هو دين إصلاحي للنفوس والمجتمعات والأنظمة، وتنقية لها ممَّا علق بها من شوائب الشيطان وهوى النفس وحب الدنيا وغيرها.
وليس الإصلاح السياسي جديداً أو مستحدثاً على الإسلام، بل هو مفهوم أصيل أكدت عليه كثير من النصوص وهو يهدف إلى تحقيق السياسة التي أرادها الشرع، وهي كما قال الفقيه الحنبلي ابن عقيل: " ما يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، أو لم ينزل به وحي" أو كما يرى الكفوي في التعريفات بأنها : "استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل".
التشريع السياسي العادل كفيل بالوفاء بحاجات الناس ومطالبهم، في كل عصر وبيئة، على ضوء من روح التشريع وقواعده وغاياته، في كل ما لم يرد فيه نص خاص بعينه، كما أنَّ حسن السياسة ينشر الأمن والأمان في أنحاء البلاد، وعندئذ ينطلق الناس في مصالحهم وأموالهم مطمئنين فتنمو الثروة، ويعم الرخاء، ويقوى أمر الدين.
لذا، فالسياسة العادلة وإصلاح الظالم منها فيه خير للأمَّة في دنياها وآخرتها؛ وذلك لأنَّ التشريع السياسي العادل كفيل بالوفاء بحاجات الناس ومطالبهم، في كل عصر وبيئة، على ضوء من روح التشريع وقواعده وغاياته، في كل ما لم يرد فيه نص خاص بعينه، كما أنَّ حسن السياسة ينشر الأمن والأمان في أنحاء البلاد، وعندئذ ينطلق الناس في مصالحهم وأموالهم مطمئنين فتنمو الثروة، ويعم الرخاء، ويقوى أمر الدين.
المفهوم الاصطلاحي
أمَّا تعريف الإصلاح السياسي فيقصد به : " تغيير وتعديل في نظام الحكم سواء أكان جزئياً أو جذرياً، ومحاربة مظاهر الفساد والضعف فيه، بوسائل مختلفة، بحيث يحقق المقاصد الشرعية المرجوة منه".
شرح التعريف:
1- تغيير وتعديل: ويقصد به تجاوز المشاكل التي يعاني منها نظام الحكم في الدولة، وذلك عن طريق إسداء النصيحة، أو المشاركة في داخل نظام الحكم، أو إسقاطه وإحلال غيره مكانه، بحيث يؤدي إلى رفع الظلم وتحقيق العدل، ومحاربة الفساد والجور ومظاهر الخلل.
2- نظام الحكم: وهو السلطة بما فيها الحاكم ومن يعاونه في شؤون الدولة، كالوزراء، والمجالس التشريعية، كما هو في المفهوم الحديث.
3- جزئياً أو جذرياً: أي أنه قد لا يهدف إلى قلب نظام الحكام، وتحويل ماهيته، أو لا يهدف إلى تغيير الحاكم، أو خلعه، وإنما الإبقاء عليه، مع مساعدته على تحقيق ما فيه خير للأفراد والأمة والدولة. وقد يهدف إلى عزل الحاكم وتغييره، أو الثورة عليه، حينما لا تجدي الأمور السابقة أي نفع أو جدوى**.
4- محاربة مظاهر الفساد والضعف فيه: وذلك لأن الإصلاح السياسي لا يكون حال كون نظام الحكم صالحاً، لا تشوبه أي من مظاهر الخلل والضعف، وإنما يكون بسبب تفشي مظاهر الفساد والضعف، ومظاهر الخلل التي تشوب علاقة الحاكم بالمحكوم.
5- بوسائل مختلفة: فهي قد تكون وسائل قولية، كإسداء النصح وتقديم الاقتراحات، وبيان مظاهر الخلل. أو وسائل عملية سلمية، كالمشاركة في الوزارة، والبرلمان، وإقامة الأحزاب، وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني، أو وسائل علمية غير سلمية، كالثورة عليه ، والمطالبة بعزله، أو الخروج المسلح وخلعه.
6- يحقق المقاصد الشرعية المرجوة منه: وهي القيام بالواجبات المتوخاة من إيجاد نظام الحكم، كإقامة الدين، ومحاربة الظلم والجور، وحماية بيضة المسلمين، ودفع العدوان عنها، وإقامة العدل وغيرها من الأمور.
أمَّا التغيير السياسي، فمفهومه يتحدَّد بناءً على صفة هذا التغيير.
فإن كان التغيير السياسي إيجابياً محموداً، يهدف إلى محاربة الفساد وإزالته، وتحقيق الإصلاح، فينطبق عليه تعريف الإصلاح السياسي نفسه، وهو : "تغيير وتعديل في نظام الحكم سواء أكان جزئياً أو جذرياً، ومحاربة مظاهر الفساد والضعف فيه، بوسائل مختلفة، بحيث يحقق المقاصد الشرعية المرجوة منه".
أمَّا إن كان التغيير السياسي لا يهدف إلى هذه الأمور، بحيث يهدف إلى تكريس الفساد، أو محاربة الخير، فإنَّه يقصد به " تغيير وتعديل في نظام الحكم سواء أكان جزئياً أو جذرياً، بوسائل مختلفة، بحيث يتحقق دون النظر إلى المقاصد الشرعية المرجوة منه ".
ومن الأمثلة على التغيير السياسي السلبي؛ مثل الخروج على الحاكم المسلم لتولية الحاكم الكافر السلطة. أو المشاركة في الحكم لتنفيذ برامج سياسية تخالف الشريعة الإسلامية بشكل قاطع، أو للسماح بإظهار المنكرات وانتشارها داخل المجتمع، إلى غير ذلك من الصور والأهداف.
--------
الهامش
** يرى البعض أنَّ الإصلاح السياسي خلافاً للثورة ليس سوى تحسين في النظام السياسي، فهو تطوير غير جذري في شكل الحكم، دون المساس بأسس هذا النظام. ولهذا يخرج منه الانقلاب لأنه يشمل أدوات غير سلمية للتغيير، ويهدف إلى تغيير القائمين على النظام أكثر من كونه يهدف إلى إصلاح النظام. بينما يرى البعض أنَّ الثورة أحد أشكال الإصلاح السياسي، إلاَّ أنَّها تعبير عن إصلاح سياسي راديكالي وسريع، كما أنَّ الانقلاب لتغيير القائمين على النظام لأنهم أساؤوا استعمال السلطة ليأتي من يقومون بالإصلاح، هو أحد أشكال الإصلاح السياسي، إلاَّ أنَّه شكل راديكالي غير سلمي للإصلاح. وهو ما أتفق معه بشكل كامل. وقد نصَّ د. وهبة الزحيلي في التفسير الوسيط، أن من وسائل الإصلاح اقتلاع المنكر، حيث قال : " إنَّ مهمَّة كلّ نبيّ أو رسول أن يبادر إلى إصلاح أخطاء قومه، وإرشادهم إلى صواب الأمور، إمَّا بالوعظ والإرشاد ، وإمّا باقتلاع المنكر من جذوره، وتصحيح الأوضاع والأحوال، وإما بعتاب المقصر أو المخطئ". ولهذا أوافق رأي د. وهبة إلى أنَّ الإصلاح قد يكون بتغيير المنكر واقتلاعه من أصله. ولهذا فوسائل الإصلاح عامَّة، تشمل السلمية وغير السلمية.