قامت ثورات الرَّبيع العربي من أجل تحقيق مجموعة من الأهداف ذات الصبغة السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، وقامت بها مجموعات متباينة من النَّاس، اجتمعوا على أهداف وغايات بعينها، وانطلقوا من مُسبِّبات واحدة.
وفي الإطار ثمَّة حقيقة بديهيَّة يجب أن يدركها كل البحَّاثة المدققين، وهي أنه مع اختلاف ظروف اندلاع كل ثورة منها، وطبيعة الأولويات التي وضعتها القوى التي حركتها، وكذلك أمدتها بالزخم اللازم لنجاحها، على اختلاف ظروف كل مجتمع من المجتمعات العربيَّة التي شهدت هذا الحِراك الثوري، بما في ذلك اختلاف طبيعة كل مجتمع منها من حيث التكوين البشري والاجتماعي والسياسي، وظروفه الاقتصاديَّة.
ولكنَّه، وبالرغم من التباين القائم في طبيعة الأسباب وطبيعة المجتمعات، وكذلك الأولويات الموضوعة لمرحلة ما بعد الثورات العربيَّة؛ إلاَّ أنَّه يمكن رد هذه "الظاهرة" إلى إطار استراتيجي عام، يجمع ما بينها كلها، وهذا الإطار يتعلق بسُنَن التدافُع التي خلقها الله سبحانه وتعالى، كأحد أبرز قوانين العمران البشري، التي وضعها الله عزَّ وجل في خلقه.
ولقد وردت سُنَّة التدافع في القرآن الكريم في موضعَيْن؛ الأول في سورة "البقرة"، في الآية "251"، في نهاية السرد القرآني لقصة طالوت وجالوت.. يقول الله عزَّ وجل: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)﴾.
ويقول أبو جعفر الطبري في تفسيره لهذه الآية: إنَّها إعلام من الله سبحانه وتعالى لأهل النفاق الذين كانوا على عهد رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، والذين تخلفوا عن الجهاد معه، للشك الذي كان في نفوسهم ومرض قلوبهم، وأيضًا للمشركين وأهل الكفر منهم.
ويقول أيضًا: إنَّه إنما يدفع عنهم معاجلتهم العقوبة على كفرهم ونفاقهم بإيمان المؤمنين به وبرسوله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، الذين هم أهل البصائر والجد في أمر الله سبحانه وتعالى، وذوو اليقين بإنجاز الله إياهم وعده على جهاد أعدائه وأعداء رسوله من النصر في العاجل ، والفوز بجنانه في الآجل.
ولعلَّ المغزى الأهم في هذه الآية، هو أنَّ الله سبحانه وتعالى ينصر المؤمنين المستضعفين، ويضع بهم نهاية للطواغيت، فقط ما التزم المؤمنون بمنهجه عزَّ وجل.
الموضع الثاني الذي وردت فيه سُنَّة التدافُع، في سورة "الحج".. يقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)﴾.
مادامت جماعة المسلمين ملتزمة بالإيمان، وتسعى إلى تحقيق الغاية العظمى من وراء وجودها وخلقها، وهو إقامة؛ فإنَّ تمكين الله عزَّ وجل لها، هو أحد السُّنَن التي قطعها الله سبحانه على نفسه، لإقامتها في خلقه.
وفي التفاسير، وفي الطبري تحديدًا، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يخبر في هذه الآية، أنَّه لولا سُنَّة أو قانون التدافع الذي خلقه بين الناس، لهدمت دور عبادة وأماكن يُذكر فيها اسم الله تعالى، والمغزى أنَّه لولا دفع الله تعالى للناس بعضهم ببعض، ويرجح الطبري أنَّ الناس هنا مقصود بهم دفع الكفار المشركين بالمسلمين المؤمنين، لما علت رسالة الله تعالى في الأرض.
كذلك ربطت الآيات ما بين الإيمان ونصر الله؛ فمادامت جماعة المسلمين ملتزمة بالإيمان، وتسعى إلى تحقيق الغاية العظمى من وراء وجودها وخلقها، وهو إقامة؛ فإنَّ تمكين الله عزَّ وجل لها، هو أحد السُّنَن التي قطعها الله سبحانه على نفسه، لإقامتها في خلقه.
أي أن سُنَّة التدافع التي نتحدث عنها في هذا الإطار، من بين أبرز الأمور التي يجب الالتفات إليها؛ حيث إن الالتزام بقوانينها أحد أهم الوسائل التي من خلالها قيام الإنسان بمهامه التي خُلِقَ لأجلها، وهي إقامة شريعة الله تعالى في أرضه، وخلافة الإله الواحد الذي لا شريك له، في الأرض.
ويرتبط بذلك سُنَّة أخرى، وهي سُنَّة التمكين واستخدام اللهِ عزَّ وجل لعباده المؤمنين من أجل إنفاذ شريعته في الأرض، وهي بدورها، كما ورد في آية "الحج" الحادية والأربعين، ترتبط هذه السُّنَّة، بقيام الإنسان بالرسائل الموكولة به، وهي إقامة شعائر الله تعالى في الأرض، من صلاة وزكاة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
وفي مقابل التمكين، فإنَّ هناك سُنَّة الاستبدال، إذا ما فرَّط المسلمون في أوامر الله ونواهيه، وفرَّطوا في الأمانة التي أوكلوا بها في الحياة الدنيا.. في سورة "التوبة"، يقول عزّ وجل: ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)﴾.
ولقد كانت قوَّة التدافع الأساسيَّة في ربيع الثورات العربيَّة، كما هي عبر التاريخ، القوى الإسلاميَّة، التي تعبّر عن الحق والجانب الخيِّر المؤمن الذي دائمًا ما يخوض الصراع ضد قوى الشر والكفر والاستبداد عبر التاريخ، باعتبار أنَّ الربيع العربي هو أحد صور الصراع الأبدي بين الحق والباطل.
ويواجه المشروع الإسلامي في الوقت الراهن العديد من التحديات، على رأسها مساعي القوى التي تمَّت إزاحتها، للنكوص على نتائج ثورات الربيع العربي، ومن ثمَّ اشتدت الحملة، وبتحليل الظواهر القائمة في الوقت الرَّاهن في بلدان الربيع العربي، وخصوصًا في مصر وتونس؛ فإننا نجد ذات الملامح التي وردت في الآيات القرآنيَّة السابقة، وغيرها من الآيات والأحاديث النبويَّة الشريفة التي تتناول ذات المعنى.
ويعلّق الدكتور محمد بن موسى الشريف، على ذلك بالقول: "لم أرَ في حياتي معركة بين أهل الإسلام وغيرهم كالمعركة الدائرة في مصر اليوم لمنع الإسلاميين من الوصول إلى حكم الكنانة، فالأكاذيب العجيبة والفجور في الخصومة وتلفيق التهم وتشويه الصورة وقلب المفاهيم كل ذلك استعمل بقوة في هذه الحملة لصد الناس عن التصويت للخيار الوحيد الذي لا يوجد غيره على وجه التحقيق!!".
ولكنَّه يعود فيقول، متتبعًا في ذلك سُنن التاريخ، والتي أكدتها النصوص المقدسة: "لكن لا بأس، فالله تعالى بالغ أمره، ومنجز وعده، وناصر عبيده، وقدره ماضٍ، وأمره نافذ، وقضاؤه متحقّق وكائن، ولو كره المفسدون، فلنستبشر ولنسلم له، فللكون إلهٌ يسمع ويرى سبحانه وتعالى".
فالسنن والقوانين الإلهيَّة تبشرنا أيضًا- كما تقول لنا: إنَّ المعركة مع الباطل صعبة- بأنَّ الإيمان بالله، وبأنَّ النصر من عنده، مع الأخذ بالأسباب، يجعل الإنسان المؤمن يطمئن إلى تأييد الله تعالى.. يقول عز وجل: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾. [سورة "النساء"- من الآية 141]، هنا أيضًا الإيمان شرط الحصول على نصرة الله عزَّ وجل وتأييده.
ويقول الإمام الشهيد سيد قطب في ظلاله، في تفسيره لهذه الآية: إنَّ الله تعالى "لن يجعل الغلبة والقهر للكافرين على المؤمنين، إنَّه وعد من الله قاطع، وحكم من الله جامع؛ أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين، وتمثلت في واقع حياتهم منهجًا للحياة ونظامًا للحكم وتجردًا لله في كل خاطرة وحركة وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة؛ فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً".
فهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها، ويؤكّد قطب، ونحن معه، أنَّ الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين، ولم تلحق بهم في تاريخهم كله، إلاَّ وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان، إمَّا في الشعور، وإمَّا في العمل، ومن الإيمان أخذ العدة، وإعداد القوَّة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله، وتحت هذه الرَّاية وحدها مجرّدة من كل إضافة، ومن كل شائبة، وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية، ثمَّ يعود النصر للمؤمنين حين يوجدون!.