جذب انتباهي اهتمام بعض المفكرين المعاصرين بفلسفة الإحسان، التي غابت عن أذهان الجيل الجديد، ولم يستطيعوا فهمها، فضلاً عن إبرازها وإظهارها وخدمتها وتجليتها بالأبحاث والكتب والمؤلفات والندوات والحوارات، وذلك بسبب الأنظمة العربية التي أحكمت قبضتها على مقاليد السلطة والثقافة والمعرفة والتربية ودفة توجيه العقل العربي الناشىء، مما غيّب الإسلام عن واقع الحياة، ولجأت أجيال الشباب إلى البحث شرقاً وغرباً عن ذاتها الضائعة المرتبكة، ونشأت نخبة متغربة ومتشرنقة تعيش قطيعة مع مشروعها الحضاري الإسلامي الشامل، وليس لديها الإلمام بفلسفته العميقة وجوهره الحقيقي، تتمسك ببعض المقولات السطحية التي توارثها جاهل عن جاهل، إلى تلك الدرجة التي أصابت بعضهم فيها لوثة العداء التي تحول بينهم وبين الفهم، أو مجرد محاولة الفهم، بحيث أصبحوا يتجرؤون على إنكار الحقائق الواضحة التي لا يسوغ إنكارها من أصحاب العقول، فتسمع مثلا عبارات مملوءة بالتهكم والسخرية مثل: "ما يسمونه نظام اقتصادي إسلامي" وليس هذا فحسب، بل يصل الأمر إلى عدم التفريق بين النظام الاقتصادي الإسلامي والنظام الاقتصادي الرأسمالي، كما قال أهل الجاهلية قديما " إنما البيع مثل الربا".
الأنظمة العربية التي أحكمت قبضتها على مقاليد السلطة والثقافة والمعرفة والتربية ودفة توجيه العقل العربي الناشىء، مما غيّب الإسلام عن واقع الحياة
على كل حال أردت بهذه العجالة أن ألفت انتباه الأجيال الجديدة إلى فلسفة أخرى أكثر عمقاً وجوهرية في الإسلام، وهي (فلسفة الجمال)، التي وجدت حواراً معمقاً بين العلماء والمذاهب والفلاسفة في صدر الإسلام، عندما برز مذهب المعتزلة العقلي، وخاض المجتمع جدالاً واسعاً حول فلسفة التحسين والتقبيح، من حيث علاقتها بالعقل والنص، للوقوف على مصدر الجمال ، وضاع هذا الحوار عندما تحول إلى بعض المسائل العقدية التي أضاعت توجيه " البوصلة " في انضاج فلسفة الجمال، التي لم تُخدم بمزيد من البحث والتأليف، ولم يتم إبرازها إلى الأجيال اللاحقة المتعاقبة، رغم أهميتها وخطورتها في الحياة الإنسانية.
لقد ورد في الحديث النبوي: " إن الله جميل يحب الجمال" ، وله إتمامات كثيرة لم يتم جمعها بطريقة تجعلها علماً وفناً ينبغي تدريسه في الجامعات، وإيجاد التخصصات الراقية التي ترفع من مستوى الجمال، الذي ينبغي بذل أقصى الوسع في المجاهدة من أجل الارتقاء بالمستوى النفساني والاجتماعي لإدراك حقائق الجمال في الموجودات، وفي السلوكيات وفي الإنجازات، ورفع مستوى التعامل مع عناصر الوجود الذي يحتاج تربية وتهذيبا وصقلا ونظافة وطهارة داخلية وخارجية. فقد ورد في القرآن مصطلح "الصبر الجميل"، "واصبر صبرا جميلا"، "فصبر جميل والله المستعان"، وهناك أيضاً الهجر الجميل، والتواضع الجميل، والقول الجميل، والتسريح الجميل، والبسمة الجميلة، واللباس الجميل، والبيت الجميل، والحديقة الجميلة، والركوبة الجميلة، والوجه الجميل الحسن،والنفس الجميلة، ولم ننس جمال الروح، قال الشاعر العربي: والذي نفسه بغير جمال ... لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً.
ان العمل على إعادة بناء منظومة " قيم الجمال" الرائعة ضرورة من أجل إعادة بناء النفس الإنسانية، وصقلها بطريقة صحيحة
فلسفة الجمال ترتكز إلى المعايير والمقاييس الصحيحة أولا، التي ينبغي التحاكم إليها على مستوى الإجمال والغلبة التي تصل إلى حد الإجماع أو التوافق، وتستمد موقعها من العقل السليم والفطرة السوية، ومن تراكم الخبرة ومن أقوال الحكماء والفلاسفة والعلماء، التي حفظها النص من الضياع، وعالج الاختلالات الناشئة فيها عن الانحراف المشبوه المليء بالمغالطات.
لذلك فان العمل على إعادة بناء منظومة " قيم الجمال" الرائعة ضرورة من أجل إعادة بناء النفس الإنسانية، وصقلها بطريقة صحيحة، تصبح من خلالها قادرة على إدراك معاني الحس والجمال، إدراكاً داخلياً عميقاً، سوياً متزناً، يرتكز على اكتمال معاني الصحة النفسانية المتوازنة، مع اكتمال العقل الذي ينبغي أن يكتسب المنهج العلمي بالتفكير، وهذا ما يجعله أكثر قدرة على إدراك الصواب والاقتراب من الحقيقة والإذعان لسطوة الحق.