كان السَّلف الصالح –رحمهم الله تعالى-يدعون الله سبحانه و تعالى ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان الماضي,و يدعونه كذلك ستة أشهر أخرى أن يبلغهم رمضان القادم, وكان هذا ديدنهم كل عام ,وهم الذين إذا نظر الواحد منهم في وجه أخيه ذكره بالله تعالى,هؤلاء الذين تتطاير قلوبنا كلَّما سمعنا أو قرأنا عن زمانهم بعباده و علمائه و نساكه و مجاهديه.
فماذا يقول المغتربون في عصرنا هذا, الذين لا يكاد الواحد منهم يرى وجه مسلم لأيام بل لأشهر و سنوات؟ ماذا عساهم يعدون لرمضان و قد امتلأت الدنيا حولهم بالمنكرات ؟ ماذا هم فاعلون ببعدهم عن الأهل والأحباب و الإخوان؟
ومع أنَّ المتأمل في حكمة الله و رحمته يجد في الاغتراب خلوة للنفس وقرباً من مولاها إلاَّ أنَّه لن يختلف اثنان على أنَّ العبء على المغتربين ثقيل جداً, و المسؤولية كذلك مضاعفة,وأنَّهم في جهاد حتى باستقبال خير الشهور,ويكاد يكون العبء الأكبر في هذه البيوت المسلمة المغتربة يرمي حمله بالدرجة الأولى على سيدة هذا البيت ,صاحبة هذه المملكة,فهي التي تنيره و تبث فيه الروح و هي كذلك التي تشحذ همة أفراده لما فيه خير,ولا بد أن نفحات مباركة كأيام وليالي رمضان تستحق من أخواتنا المغتربات بذل جهدهن بوضع خطة محكمة لاستقباله حق الاستقبال لتكون هي و أهل بيتها من أصحاب الجائزة بإذن الله تعالى . ولكن أنّى لها أن تقوم بهذه المهمة قبل أن توقظ في ذاتها و نفسها الشوق و الترقب للزائر الغالي !
إذا فالمرحلة الأولى:
هي أن تهيّئ نفسها و قلبها بالدعاء و قراءة قصص الصَّحابة و التابعين كيف كانت همتهم في رمضان و استقباله,وتوقظ روحانياتها بتفسير آيات الصِّيام، و فضل هذا الشهر المبارك و ليلة القدر, و ما إن يحدوها الشوق إلى نفحاته حتى تكون بنفسها شعلة توقظ أهل بيتها استعداداً و ابتهاجاً ليغدوا جميعاً في هذا الركب.
فتنتقل للمرحلة الثانية :
وقد تبدأها بجلسة عائلية لطيفة تخبرهم فيها بعدد الأيام المتبقية لوصول زائر محبوب كريم. ثمَّ تحدثهم عن بعض ما قرأت عن فضل خير الشهور, وكيف كان الصَّحابة و التابعون رضوان الله عليهم يعدّون العدَّة لاستقباله و يطيرون شوقاً للقياه, وليس هناك أدنى شك في أنَّ شوقها سيبدو في كلماتها, و الصّدق في الكلمات يلامس القلوب فيوقظها.
ومن اللطيف أن تعمل لوحة مع أفراد أسرتها تحوي تقويماً للأيام التي بقيت حتى يهل رمضان, و يزيّن مربع اليوم الأوَّل لرمضان بشكل مبهج جذاب ,ويترك على جوانب اللوحة مكانا ليعبر فيه أفراد الأسرة عن مشاعرهم و توقهم للمنتظر الحبيب, وفي كلِّ يوم يمضي باتجاه رمضان يرسم أو يوضع قلب فيترك في نفوسهم أثراً حين يرون الطريق لرمضان قد ملئ بالقلوب.
والتعاهد من قبل الزَّوجين على حسن الاستعداد و تهيئة البيت و النفوس لاستقبال شهر الخير أمر في غاية الأهمية , فمن الممكن أن تحيل الأم بعض المهام إلى الأب في إدارته للجلسات العائلية ليتحدث في بعضها عن طفولته الرمضانية, فكم يحب الأبناء سماع قصص طفولة آبائهم و كم لها من تأثير على فهمهم و سلوكياتهم,و أن يتحدث في جلسات أخرى عمَّا لهذا الشهر من فضل عظيم و كيف يمكن استثماره,و يتحدَّث كذلك عن خطته القادمة في العبادة و حسن التخلق و تعديل السلوك.
وعلى الوالدين أن يعوا أنَّ لصدقهم في حديثهم مع أبنائهم أثراً عظيماً عليهم , فبهذه الجلسات العائلية و بعض الأعمال البسيطة يرققون قلوب أبنائهم، فيتحرَّون قدوم الزائر الغالي, و يوقظون الهمَّة في عقولهم ليرتبوا-ولو عفوياً- كيف سيحيون هذا الشهر الفضيل..
لنأخذ بيدهم للمرحلة الثالثة:
وهي كتابة خطة رمضانية لاستثماره و التنافس فيه ,ورصد مكافآت و جوائز في نهايته,و تحديد المحاور الرئيسة للخطة ,من صلاة و قيام و تهجد و صدقة و بر و صلة رحم,وغيرها من العبادات بما يتناسب و عمر الأبناء.
ولا يغفل في هذه المرحلة أن توضع حوافز تشجيعية على الطريق كي لا يفتر المتنافسون,بأن يكون هناك تقييم نهاية كل أسبوع و مكافآت تتناسب و رغبة الأبناء ولا ننسى كذلك ربطهم بالجائزة العظيمة عند رب عظيم.
ثمَّ إنَّ صلة الرحم في الغربة لابد و أن تكون بطابع إلكتروني, فعلى الأسرة أن ترتب جدولا يحوي الأيام و الأوقات التي سيتواصلون بها مع الأهل ,ويكتب عليه عبارات تبين فضل صلة الرحم و أجرها ,ليكون لهذه الاتصالات نية مميّزة في هذا الشهر المميز.
إنَّ نجاح هذه المراحل بكل ما فيها يكمن بصدق التوجه لله تعالى و إخلاص النية إليه, مع صدق الوالدين بأقوالهم و أفعالهم أمام الأبناء فيكونون قدوة لهم و إن لم يوجههوهم لفظاً.
يقول صلّى الله عليه و سلّم للصَّحابة: (( أتاكم شهر رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة و يحط الخطايا و يستجيب الدعاء,فأروا الله من أنفسكم خيرا ,فإنَّ الشقي من حرم فيه رحمة الله )) .أخرجه الطبراني
فكيف لنا و نحن نسمع حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا نري الله مناّ خيراً,و أن لا نعدّ نفوسنا و بيوتنا و أهلينا لهذا الخير, فبقدر شوقنا و استعدادنا لاستقبال شهر الفضل و البركة تكون الهمَّة و العمل فيه,و بقدر إخلاصنا و همَّتنا و عملنا فيه يكون القبول بإذن الله تعالى.