كانت معركة الانتخابات الرئاسيَّة المصريَّة على رأس أولويات المواطن الفلسطيني، وخصوصًا في قطاع غزة؛ حيث لا تزال القضيَّة بمعانيها وثوابتها الأساسيَّة حيَّة، في ظل استمرار حضور أفكار المقاومة، مع دعم حكومة الوحدة الفلسطينيَّة، بقيادة حركة المقاومة الإسلاميَّة "حماس"، لها.
ولقد زاد اهتمام المواطن الفلسطيني بالانتخابات الرئاسيَّة في مصر، في مرحلة الإعادة، عندما رَسَتْ الأمور على خوض مرشح الثورة، الدكتور محمد مرسي، مرشح الإخوان المسلمين وحزب الحريَّة والعدالة، معركة الإعادة مع مرشح فلول النظام السابق المخلوع، الفريق أحمد شفيق؛ حيث إن فوز مرسي كان يعني الكثير من وجهة نظر الفلسطينيين فيما يخص التغيير المطلوب في السياسة المصريَّة، تجاه القضايا العربيَّة، وتجاه القضيَّة الفلسطينيَّة على وجه الخصوص.
ففوز مرسي له جانبان جيِّدان من وجهة النظر الفلسطينيَّة- والمصريَّة الشعبيَّة أيضًا- الأوَّل جانب سلبي، أو دفاعي، وهو يعني "نفي" أو "عدم" فوز شفيق، وهو الذي كان لو حدث يعني عودة النظام المصري السابق بكل سياساته التي كانت تتعارض مع أبسط المصالح الفلسطينيَّة، بل وصلت إلى درجة التحالف والتأييد المباشر مع السياسات الإسرائيلية، والمطالب الأمريكيَّة في هذا الخصوص.
الجانب الثاني لفوز مرسي، هو الجانب الهجومي أو الإيجابي، وله أكثر من وجه، الأول أنه يعني وصول شخصيَّة من القوى التي قادت ثورة مصر، والثاني أنه ينتمي إلى التيار الإسلامي، الذي يحمل عبء الدفاع عن قضايا الأمة في كلِّ مكان، وليس في فلسطين فحسب؛ حيث يقود التيار الإسلامي مشروع المقاومة والممانعة في كل الأمة، وخصوصًا في مجال مواجهة قوى الاستكبار العالميَّة الغازية، كما في أفغانستان وفي العراق.
ولذلك؛ فإنَّ مجرَّد فوز مرسي برئاسة مصر في حد ذاته يعني تغيُّرًا كبيرًا في قواعد معادلة السياسة الإقليميَّة والعالميَّة المرتبطة بالإقليم، فهو حتى لو لم يعني سياسات جديدة قويَّة تحقق الطموحات؛ فهو على أقل تقدير يعني اختفاء سياسات قديمة عدائيَّة، كرَّست القرار الإسرائيلي، وحَمَتْ المصلحة الإسرائيليَّة، على حساب قضيَّة الأمة الأولى، ومتطلبات معالجتها.
وفي حقيقة الأمر؛ فقد بدأ التغيير في السياسة المصريَّة إزاء القضيَّة الفلسطينيَّة في مرحلة مبكرة من الفترة التي تلت اندلاع ونجاح ثورة الشعب المصري ضد الطاغوت الذي كان يحكمه؛ حيث بدأت الحكومة المصريَّة في مساعٍ حثيثة أدت إلى توقيع اتفاق المصالحة بين حركتَيْ حماس وفتح، في القاهرة، في الرابع من مايو 2011م، ثم تم فتح معبر رفح في الاتجاهَيْن من دون عوائق.
بدأ التغيير في السياسة المصريَّة إزاء القضيَّة الفلسطينيَّة في مرحلة مبكرة من الفترة التي تلت اندلاع ونجاح ثورة الشعب المصري ضد الطاغوت الذي كان يحكمه؛ حيث بدأت الحكومة المصريَّة في مساعٍ حثيثة أدت إلى توقيع اتفاق المصالحة بين حركتَيْ حماس وفتح
واستمرت الوساطة المصريَّة حتى تم جمع الفصائل الفلسطينية في القاهرة في خريف العام الماضي، وتم تشكيل لجان المصالحة الخمس، من أجل تحقيق المصالحة المجتمعيَّة، وإطلاق الحريات، وإصلاح منظمة التحرير الفلسطينيَّة، وتشكيل حكومة انتقاليَّة تخطط للانتخابات العتيدة التي تشبه جودو الذي لم يأتِ بعد!
ويلاحظ أنَّ الجهد المصري الأساسي في المرحلة الماضية، ركز على قضيَّتَيْن أساسيتَيْن؛ الأولى الحصار، وركزت مصر على موضوع معبر رفح، ولكن لم يكن الجهد المصري في هذا الجانب مُرْضيًا؛ حيث ظهرت العديد من المشكلات طيلة الأشهر الماضية على المعبر استمرت حتى قُبَيل إجراء انتخابات الإعادة، وإعلان نتيجتها.
فلعبت الكثير من الاعتبارات الأمنيَّة، والسياسيَّة أيضًا، دورها في رسم سياسات القاهرة إزاء المعبر، وإزاء قضيَّة دخول وخروج السلع عبر معبر كرم أبو سالم، التزامًا من مصر الجديدة باتفاقيَّة المعابر الموقَّعة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل والاتحاد الأوروبي في نوفمبر 2005م، كجزء من ترتيبات الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من غزة في حكومة أرييل شارون الثانية.
القضيَّة الثانية كانت قضيَّة المصالحة الفلسطينيَّة، وانتهت الجهود المصريَّة التي قادتها المخابرات العامة حتى هذه المرحلة، بتوقيع حماس وفتح، في مايو الماضي، على خطة عمل زمنيَّة لترتيبات تنفيذ إعلان الدوحة، والخاصة بتكشيل حكومة التوافق برئاسة رئيس السلطة المنتهية ولايته محمود عباس، لإجراء انتخابات المجلس الوطني والمجلس التشريعي والرئاسة، والعمل على فك الحصار المفروض على قطاع غزة، وانتهاء بإعمار القطاع بعد العدوان الصهيوني الذي دمره في شتاء 2008/2009م.
قضايا مطروحة
هناك العديد من القضايا والملفات التي يضعها الفلسطينيون على رأس أولويات الرئيس المصري الجديد، وينتظر منه فيها قرارات بعينها، وعلى رأسها موضوع معبر رفح؛ باعتبار أنَّ هذا الموضوع هو الأكثر إلحاحًا بالنسبة للفلسطينيين في غزة، فالحصار قتل المئات من أهل القطاع طيلة سنوات الحصار الماضية.
فلقد أدَّى غَلْق مبارك المخلوع للمعبر إلى الكثير من العواقب الاجتماعيَّة الكارثيَّة على القطاع؛ حيث منع غلق المعبر في كثير من الأحوال الطلبة من استكمال تعليمهم في الخارج، ولم الشمل بين الشخص وأسرته وعائلته، وفي كثير من الأحوال، تفرقت السُّبُل بين زوج وزوجته، حديثي الزواج.
وبطبيعة الحال يرتبط المعبر بالعديد من الأولويات الحياتيَّة اليوميَّة التي تضع ملفه على رأس أولويات الرئيس الجديد، كما إن القرار في شأنه مصري خالص، وهو ما يسهل الأمور بالنسبة للرئيس المصري الدكتور محمد مرسي.
ويختلف هذا الملف عن ملف المصالحة، فالمصالحة ليست قرارًا مصريًّا خالصًا أو فلسطينيًّا خالصًا، وهو ما أدَّى إلى فشل كل المحاولات التي بذلتها مصر وأطراف عربيَّة أخرى لجمع الحركتَيْن، بدءًا من اتفاق مكة المكرمة، وصولاً إلى تفاهمات القاهرة الأخيرة، مرورًا بإعلان الدوحة.
فالمصالحة الفلسطينيَّة، من وجهة نظر علم السياسة هي نمط من أنماط السلوك السياسي تعني سلسلة من التنازلات المتبادلة من جانب الطرفَيْن، وما يطلبه عباس وفتح من حماس من المستحيل تنفيذه؛ وإلاَّ فقدت حماس شرعيَّة وجودها ذاتها، مثل التنسيق الأمني مع إسرائيل والاعتراف باتفاقيات أوسلو والتزامات منظمة التحرير والسلطة إزاء إسرائيل فيها، ولو قبلت حماس ذلك؛ لما ظلت هي حماس.
في المقابل، فإنَّ ما تطلبه الحركة من عبَّاس والسلطة، يُقابل بضغوط أمريكية وإسرائيلية، لا يملك عبَّاس- حتى لو تحول فجأة وأصبح ذا حسٍّ وطني- أن يتجاوزها في ظل الحصار الأمريكي الإسرائيلي له، والذي لو تجاوزه قسرًا؛ فإن معناه الذبح.. سياسيًّا أو جسديًّا!!
ولذلك؛ فإنَّ قدرة مرسي في الحركة في هذا الملف لن تكون فعالة، بخلاف ملف معبر رفح، الذي هو قرار مصري خالص.
تأثير استراتيجي
وبعيدًا عن الجزئيات؛ فإنَّ تأثير وصول مرسي، أو المشروع الإسلامي بمعنىً أدقٍّ، إلى السلطة في مصر، أبعد من تلك الجزئيات، فوجود شخص بخلفيَّة محمد مرسي، له تأثير أبعد مدىً من النقطة الزمنيَّة التي نتكلم فيها.
فوجوده يعني نزع أي غطاء شرعيَّة إقليمي عن أيَّة سياسات عدوانيَّة إسرائيليَّة جديدة ضد الفلسطينيين، على غرار ما وقع في ديسمبر 2008م، ويناير 2009م، فحينها كانت مصر- للأسف- أكبر داعم لإسرائيل في عدوانها على غزة، وهو ما يلغيه تمامًا وجود مرسي في سُدَّة الرئاسة في مصر، ولو قامت إسرائيل بنفس الفعل الإجرامي؛ فإن مصر سوف تتحول إلى نار تحت أقدام إسرائيل، من خلال ردَّة الفعل الشعبي التي لن يقمعها النظام كما في السابق.
كذلك فإنَّ وجود مرسي في الحكم، سوف يرفع الدعم المصري الرسمي عن السلطة، وهو ما سوف يضعف موقفها التفاوضي مع إسرائيل، كذلك في مواجهة حماس في المصالحة، ولذلك فإننا نفهم المساعي الإسرائيليَّة الحالية لعقد لقاءات مع عباس؛ حيث تسعى إلى تقوية موقفه في مواجهة حماس ومشروع المقاومة بشكل عام، على علم تل أبيب بأن عباس انتهى في القاهرة تقريبًا.
إنَّ تأثير وصول مرسي، أو المشروع الإسلامي بمعنىً أدقٍّ، إلى السلطة في مصر، أبعد من تلك الجزئيات، فوجود شخص بخلفيَّة محمد مرسي، له تأثير أبعد مدىً من النقطة الزمنيَّة التي نتكلم فيها.
فالمعروف أنَّ النظام المخلوع في مصر كان يضغط على حماس كثيرًا فيما يخص المصالحة، كذلك كان يضغط على حلفائه في السلطة، من أجل تقديم المزيد من التنازلات لإسرائيل في أيَّة مفاوضات بين الجانبَيْن الفلسطيني والإسرائيلي، واختفاء المخلوع مبارك وجود مرسي، هو ما يسميه علماء السياسة بتأثير النفي أو الاستبعاد؛ فحتى لو لم تسمح ظروف مصر بأيَّة أفعال قويَّة على المستوى الفلسطيني لمصلحة القضية في المرحلة الحالية؛ فإنَّ فوز المشروع الإسلامي برئاسة مصر سوف يمنع هذه التأثيرات السلبيَّة.
كمَّاشة إسلاميَّة
أيضًا؛ فإنَّ هناك تأثيرًا تراكميًّا لفوز مرسي إذا ما وُضع بجانب صعود المشروع الإسلامي إلى بلدان عربية أخرى، فالمشروع الإسلامي شكل الحكومة بالفعل في تونس والمغرب، وجزء من النظام الحاكم في الجزائر، ولو قَدَّر الله تعالى له الانتصار في سوريا؛ فإن هذا معناه تحول هائل في الأوضاع في الإقليم؛ حيث إن ذلك معناه استعادة الكماشة العربيَّة حول إسرائيل في منطقة الهلال الخصيب.
ولكن الكماشة هذه المرة لن تكون ذات هويَّة قوميَّة، أو في قبضة أنظمة مُغامِرة لها أجنداتها الخاصة المتباينة، كما في حالة البعث في سورية والعراق والناصريَّة في مصر؛ وإنما في قبضة مشروع إسلامي يتميَّز بأنه موحد، وينتمي أيديولوجيًّا وفكريًّا للقضيَّة الفلسطينيَّة، بالإضافة إلى أنَّ لها ظهيرًا تعبويًّا عميقًا في أنحاء عدة من العالم العربي، وليست كماشة معزولة لا ظهير حقيقيًّا لها.
ولذلك؛ فإنَّ انتصار المشروع الإسلامي في مصر، يعطي دفعة معنويَّة وسياسيَّة وماديَّة هائلة للفلسطينيين، ويعني أنَّ ظهيرًا تعبويًّا قويًّا قد عاد ليلعب دوره بعد غياب لعقود، وهو ما يقلب المعادلة السياسيَّة تمامًا بين الفلسطينيين والصهاينة، وهو ما سوف يجبر الكيان العدو على إعادة حساباته لمدَّة طويلة قادمة.