التمكين للمشروع الإسلامي بين النموذجَيْن المصري والتركي

الرئيسية » بصائر الفكر » التمكين للمشروع الإسلامي بين النموذجَيْن المصري والتركي
alt
شهدت السنوات القليلة الماضية بزوغ ثمار عقود الصَّحوة الإسلاميَّة، التي بدأت في تطبيق منهجها الحركي الاجتماعي والسياسي بشكل عميق في عقد السبعينيات الماضية؛ حيث وصل إلى الحكم عدد من الأحزاب الإسلاميَّة، في عدد من البلدان العربيَّة والإسلاميَّة، وشكلت هذه الأحزاب حكومات جديدة تقوم بأعباء مزدَوِجة، جانبها الأول خدمة الوطن، والثاني خدمة المشروع.
وكلا الجانبَيْن أصعب من الآخر، فخدمة الأوطان، تتطلب محو آثار عقود طويلة من حكم الأنظمة الاستبداديَّة التي فسدت وأفسدت وأتلفت الكثير من مكونات المجتمعات التي حكمتها، وأعادتها إلى الخلف قرونًا طويلة في السباق الحضاري، أما خدمة المشروع الإسلامي؛ فتُواجه بالكثير من التحديات، أبسطها قوى الممانعة من الأنظمة السابقة، وأعداء المشروع في الداخل والخارج.
ومن بين أوائل هذه التجارب، تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا، بعد انتخابات 2002م، ثمَّ تجربة حركة حماس، بعد انتخابات 2006م، وصولاً إلى تجارب مصر وتونس والمغرب في مرحلة ما بعد الربيع العربي؛ حيث وصلت الحركة الإسلاميَّة إلى مستوى تشكيل حكومة ائتلافيَّة في كل من المغرب وتونس، ورئاسة الدولة في مصر، بعد فوز الدكتور محمد مرسي مرشح حزب الحريَّة والعدالة والإخوان المسلمين، بمنصب الرئاسة.
ولعلَّ حدث فوز مرشح عن الإخوان المسلمين بالرئاسة في مصر من الأهميَّة والخطورة بمكان، بحيث يمكن الحديث عن انقلاب إقليمي ودولي، وليس على مستوى مصر فحسب، باعتبارها سابقة هي الأولى من نوعها، وزاد من عُمق تأثيرها أن الرجل جاء في انتخابات شعبيَّة، وبإرادة حرة للناخبين.
ومنذ فترة ليست بالقريبة، ظهرت الكثير من الدراسات والمقالات التي تحاول أن تقارن ما بين الصعود الإسلامي في تركيا، وفي مصر، باعتبار البلدَيْن من بين أهم بلدان العالم الإسلامي، ولعب كل منهما أدوارًا كبيرة عبر تاريخ المنطقة والأمة، والعالم أيضًا، وضعته على رأس الأمم الحضاريَّة.
ويسعى البعض أن يرى التجربة الإسلاميَّة في الحكم في مصر على نفس المستوى من الإنجاز والتمكين التي وصل إليها في تركيا، إلا أن هناك العديد من الاختلافات القائمة ما بين النموذجَيْن المصري والتركي، على مستويات عدة، رأسيَّة، سياسيَّة ومجتمعيَّة وثقافيَّة، وكذلك أفقيَّة، أي داخليَّة وخارجيَّة، تشير- أي هذه الاختلافات- إلى أنَّ صيرورات ومآلات المشروع الإسلامي في الحكم، سوف تختلف في مصر عنها في تركيا، أو على الأقل تُنبئ بأن المهمة لن تكون سهلة في مصر.
هناك اختلاف كبير قائم ما بين طبيعة المجتمع المصري وطبيعة المجتمع التركي، فارتفاع نسبة الأُميَّة وضعف الثقافة السياسيَّة في مصر، تجعل من مهمَّة أعداء المشروع الإسلامي أكثر سهولة، في ظل هيمنة أعداء المشروع على مفاصل الإعلام.
اختلاف المجتمع والدولة
أولاً هناك اختلاف كبير قائم ما بين طبيعة المجتمع المصري وطبيعة المجتمع التركي، فارتفاع نسبة الأُميَّة وضعف الثقافة السياسيَّة في مصر، تجعل من مهمَّة أعداء المشروع الإسلامي أكثر سهولة، في ظل هيمنة أعداء المشروع على مفاصل الإعلام.
كذلك لا يمكن مقارنة سيطرة الجيش التركي ومؤسسات الجمهوريَّة العلمانيَّة في تركيا، الحديثة الوجود نسبيًّا، بالدولة العميقة في مصر، والتي هي استمرار لدولة مركزيَّة عمرها آلاف السنوات، وارتبط بها المواطن المصري في مصيره ذاته، بدءًا من توزيع مياه النيل على الأراضي الزراعيَّة قديمًا وصولاً إلى تجربة الدولة الاشتراكيَّة التي تقوم بكل شيء نيابة عن المواطن، ويعتمد عليها حتى في تذكرة الأوتوبيس الذي يستقله يوميًّا ورغيف الخبز ودعم الكساء والغذاء.
فالدولة العلمانيَّة في تركيا أقل وطأة في تغلغلها في وسائل الإعلام وفي ثقافة المواطن ذاته وحياته اليوميَّة، من الدولة المصريَّة، ولئن كانت هيمنة المؤسسة العسكريَّة والدولة التركيَّة على المجتمع التركي قد طالت لعقود سبعة أو ثمانية، فإنَّ الدولة المصريَّة تهيمن على المجتمع منذ آلاف السنين، ويمتد عمر الدولة المصرية الحديثة إلى ما يزيد على القرنَيْن من الزمان، منذ عهد محمد علي.
ومن ذلك اختلاف سيطرة الجيش على مقاليد الأمور في مصر عنها في تركيا؛ حيث إنَّ الجيش أو المؤسسة العسكريَّة في تركيا تنطلق من منطلقات سيطرة سياسيَّة بالأساس، أما الجيش في مصر؛ فهو متغلغل في المجتمع بصورة أكبر بكثير مما هو قائم في تركيا، كذلك يمتلك حصة كبيرة من الاقتصاد المصري، أقل وأهون التقديرات الدوليَّة تشير إلى أنها تصل إلى حوالي 20% من حجم الاقتصاد المصري.
وينظر الجيش المصري إلى نفسه على أنَّه مؤسس الدولة المصريَّة الحديثة، وهو صاحب تجربة طويلة في السياسة والحكم في مصر، حقق من خلالها مكتسبات كبيرة على المستويات السياسيَّة والاقتصاديَّة والبيروقراطيَّة لا يمكن له التفريط فيها بسهولة.
كما أنَّ النظام الجديد الوليد في مصر لا يمكنه القيام بذات الموائمات التي قام بها أردوغان في الداخل والخارج قبل وبعد وصول حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم في تركيا، وإلا فقد علَّة وجوده، وأصل شعبيته التي اكتسبها لأنه هو كذلك، بأجندته التي يطرحها.
موائمات مفقودة!
فحزب العدالة والتنمية نشأ في تركيا من الأصل تمردًا من جانب بعض شباب حزب الرفاه وتلاميذ الرَّاحل الكبير نجم الدين أربكان، أبي الإسلام السياسي الحركي في تركيا، على ما اعتبروه تمسكًا جامدًا بالأصول والقواعد والثوابت، وطالبوا في البداية بأن يتحلّل أربكان من بعض هذه الثوابت لإمكان التمكين للمشروع الإسلامي في تركيا سياسيًّا في المؤسسة الحاكمة، ثمَّ العمل على تمكينه مجتمعيًّا وتجذيره ثقافيًّا مرَّة أخرى، وهو ما رفضه أربكان في نهاية التسعينيات الماضية.
فوُلد حزب العدالة والتنمية، على يد أردوغان وعبد الله جول ورجائي قوطان، وغيرهم من الجيل الجديد في الحركة الأربكانيَّة، معلنين عن هويَّة إسلاميَّة واضحة، ولكنها تلتزم بقواعد وأصول الحكم العلماني التي أرساها مصطفى كمال أتاتورك.
الإخوان المسلمون في مصر، في هذا الإطار، لا يمنهم التماهي مع الكثير من المطالب التي يمكنها "طمأنة" الداخل والخارج في قضايا عديدة، كما فعل أردوغان في ملفَيْن بعينهما أحدهما داخلي والآخر خارجي، الأول الداخلي الخاص بهويَّة الدولة؛ حيث أعلن أردوغان وحزبه صراحة الالتزام بمبادئ الجمهوريَّة العلمانيَّة في تركيا، وما حدده الدستور التركي في ذلك.
الأمر الثاني الخارجي، هو العلاقات مع إسرائيل، فحتى في أسوأ فترات الأزمة في العلاقات ما بين تركيا وإسرائيل على خلفيَّة جريمة أسطول الحرية الأول لكسر الحصار عن قطاع غزة، التي ارتكبتها القوات البحريَّة الخاصة الإسرائيلية، في مايو 2010م، لم تقطع تركيا العلاقات مع إسرائيل.
وصول حزب العدالة والتنمية في تركيا، مع التزامه بقواعد الحكم القديم في تركيا، لم يأتِ لكي يصطدم بالقوى الإقليميَّة والدوليَّة؛ بل على العكس؛ فإن البيئة الخارجيَّة التي تحرك فيها حزب العدالة والتنمية، كانت قائمة على أساس ترتيبات سابقة
اختلاف البيئة الخارجيَّة
كذلك، فإنَّ وصول حزب العدالة والتنمية في تركيا، مع التزامه بقواعد الحكم القديم في تركيا، لم يأتِ لكي يصطدم بالقوى الإقليميَّة والدوليَّة؛ بل على العكس؛ فإن البيئة الخارجيَّة التي تحرك فيها حزب العدالة والتنمية، كانت قائمة على أساس ترتيبات سابقة، لم تكن تشمل أي شكل من أشكال الصِّدام مع الجوار الإقليمي أو الدولي، باستثناء اليونان؛ حيث تركيا أحد أركان حلف شمال الأطلنطي "الناتو"، وهو تحالف سياسي قبل أن يكون عسكريًّا، يرتبط بالسياسة الغربيَّة في العالم بشكل عام.
فعلاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وبما في ذلك إسرائيل، كانت علاقات إيجابيَّة، فيما يأتي المشروع الإسلامي الذي يقوده الإخوان المسلمون في مصر في أجواء أزمة مع الكيان الصهيوني.
كما لا يزال الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة ينظر بعين الريبة للإخوان المسلمين الذين يرفعون راية الممانعة، ويحملون أجندة عدائية ضد إسرائيل، ويقدّمون الكثير من الإشارات التي تؤكّد أنّهم لن يستمروا في أداء الدور الخدمي الممتاز الذي كان النظام المخلوع يقدّمه للأجندة الأمريكيَّة والإسرائيليَّة في المنطقة.
تباين في التحدّيات
من بين أوجه الاختلاف القائم أيضًا، اختلاف التحديات التي تواجه الحكم الجديد في مصر؛ عن تلك التي واجهت العدالة والتنمية في تركيا بعد توليه الحكم في العام 2002م.
فعلى سبيل المثال، لم تكن تركيا تواجه التحدي الأمني الذي يواجهه النظام المصري الآخذ في التشكُّل، سواء على المستويَيْن الداخلي والخارجي، ويزيد من وطأة هذه المشكلة أن العبئ الخاص بالأمن الداخلي منوط بجهاز الشرطة والأمن الوطني الذي كان منذ أشهر قليلة يناصب الحركة الإسلاميَّة العداء بشكل فاضح، وكان أحد أركان النظام القمعي السابق المخلوع في مصر، وأحد أهم أدواته في ممارسته الاستبداديَّة.
ولذلك؛ فإنَّ الجميع يتوقع أن تكون معركة تطهير جهاز الأمن الداخلي، وإعادة هيكلة جهاز الشرطة على أسس جديدة، هي المعركة الأهم من أجل جعله يقوم في عمله على أساسَيْن رئيسيَّيْن، الأول القيام بمهمته الأساسيَّة في حفظ الأمن وتطبيق القانون وحفظ الاستقرار والآداب العامة، من دون تجاوزها لأية مهام أخرى، سياسيَّة خصوصًا، والثانية القيام بمهمته في إطار احترام قواعد حقوق الإنسان، وهي ثقافة غائبة عن جهاز الشرطة في مصر إلى حد كبير.
كذلك جاءت حكومة العدالة والتنمية لتستقر على رأس نظام سياسي قائم، وله قواعده الدستوريَّة والمؤسسيَّة، وفي إطار أجواء سياسيَّة واجتماعيَّة مستقرة، وليس كما هو الحال في مصر؛ حيث يأتي فوز الدكتور محمد مرسي بالرئاسة في أعقاب ثورة شعبيَّة، أطاحت برؤوس النظام القديم، ولكنها لم تُطِح به بأكلمه.
كما أنَّ مرسي أو المشروع الإسلامي في مصر يرث تركة اقتصاديَّة واجتماعيَّة وسياسيَّة ثقيلة؛ حيث تمر مصر بأسوأ محطاتها التاريخيَّة فيما يخص تراجعها الحضاري بشكل عام، وأبرز مؤشرات ذلك، ارتفاع نِسب الفقر والبطالة والمرض، والأهم الأُميَّة، في ظل عقود من التجهيل المُتعمَّد من جانب النظام السابق، مع غياب المشروع القومي الجامع، وتراجع دور مصر الإقليمي، وغياب الدولة عن القيام بأدوارها الأصيلة في إحلال الأمن المجتمعي وضمان حقوق الإنسان وتحسن مستوى رفاهية الناس.
في الأخير؛ لا يمكن التنبؤ بمصير التجربة الإسلاميَّة في الحكم في مصر في الوقت الراهن؛ حيث إن الوقت لا يزال مبكرًا للحكم أولاً على مدى قدرة النظام الجنين الوليد على الصمود في وجه عواصف عاتية سوف تواجهه، لم تجربها التجربة التركية؛ نظرًا لاختلاف الظروف القائمة ما بين التجربتَيْن، برغم انطلاقهما من أصل واحد، وأرضيَّة مشتركة.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

التدجين الناعم: كيف يُختطف وعي الأمة؟ (2-2)

تحدثنا - بفضل الله تعالى- في الجزء الأول من هذا الموضوع عن:- توطئة عن الموضوع. …