القرآن الكريم، ليس كتاب تلاوة وقراءة فحسب، بل هو كتاب فيه توجيه للأمَّة، وإرشادٌ لها لما فيها عزتها ونهضتها، فهو يكشف طبيعة النفوس، ويبيِّن حقيقتها، ويحدِّد معالم الصراع بين الحق والباطل، هو مصدر نهضة الأمم، إن أحسنت فهمه وتطبيق أحكامه، وأساس عزِّها، إن اعتمدت عليه في تقوية علاقتها ببارئها.
وممَّا لا يخفى على أحد أنَّ دروس القرآن لا تنتهي، ودرره لا تنفد، وإرشاداته والحكم الواردة فيه لا نهاية لها مطلقاً، وفي هذا الموضوع، نتفيَّأ ظلال آيات من القرآن الكريم، إنَّها تلك التي تتناول قصة بني إسرائيل، وذبحهم لتلك البقرة في زمن موسى عليه السلام، وما فيها من عبر وحقائق نستفيد منها في حياتنا.
ملخص القصة
تتحدث الآيات (67 – 74) من سورة البقرة عن قصة تكشف الطبيعة الحقيقية لبني إسرائيل، في زمن موسى عليه السلام، حيث وقعت جريمة قتل في زمنه، ولم يعرف القاتل، وصار كل واحد يتهم الآخر بأنه القاتل، ثم رفعوا الأمر إلى موسى عليه السلام ليحكم بينهم. فأمرهم موسى عليه السلام بعد أن أوحى الله له بأن يذبحوا بقرة – أي بقرة- دون تحديد لصفة أو عمر أو لون، ولكن طبيعة بني إسرائيل القائمة على التفاوض والتلكؤ والتباطؤ، رفضت تنفيذ أمر الله، وإنما سألوا موسى عليه السلام، عن عمرها، فأجابهم بأنها ليست صغيرة ولا كبيرة، بل متوسطة العمر. ثم سألوه عن لونها، فقال صفراء فاقع لونها تسر الناظرين. وسألوه عن ماهية عملها، فقال بأنَّها لا تعمل بالحرث ولا بالسقي، بل هي معزّزة عن أصحابها، فذبحوها وما كادوا يفعلون.
ثمَّ أمرهم موسى عليه السَّلام أن يضربوا بجزء من هذه البقرة المذبوحة جسد القتيل، فلما فعلوا أحيا الله القتيل، ودبت فيه الروح وأخبر عن قاتله. ثم مات وسط دهشة الحاضرين.
حكم وعبر..
تحوي القصة السَّابقة على كثير من العبر التي تبين طبيعة بني إسرائيل، القائمة على التفاوض والمراوغة والكذب، إضافة للعديد من الحقائق التي تبين قدرة الخالق وحقيقة البعث وطبيعة الموت والحياة. ومن الأمور التي تدلل على ذلك:
الإيمان يجعل المؤمن يتلقى الأمر من الله طائعا، عرف علته أو لم يعرف. ولهذا كان الإيمان أساس الالتزام، دون الجدل والمراوغة والتفاوض فيما يضيع أمر الله
1- تكشف الآيات بشكل واضح مدى تلكؤ بني إسرائيل في الاستجابة للتكاليف، وطاعتهم للرسل، وفي نفس الوقت تلمسهم للحجج والمعاذير لتلك الأوامر، والسخرية المنبعثة من صفاقة القلب وسلاطة اللسان. وهذا ظهر في كثير من مواقفهم في أكثر من قصة من قصص القرآن. في حين أن المؤمنين يختلف حالهم عن حال بني إسرائيل، فالإيمان يجعل المؤمن يتلقى الأمر من الله طائعا، عرف علته أو لم يعرف. ولهذا كان الإيمان أساس الالتزام، دون الجدل والمراوغة والتفاوض فيما يضيع أمر الله، ويؤكد عدم الثقة والإيمان به.
2- الحكمة من أمر الله تعالى لبني إسرائيل بذبح بقرة دون غيرها من الحيوانات؛ لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل، وفي أمرهم بذلك تهوين لشأن هذا الحيوان الذي عظموه وعبدوه وأحبوه فكأنه - سبحانه - يقول لهم: إنَّ هذا البقر الذي يضرب به المثل في البلادة، لا يصلح أن يكون معبوداً من دون الله ، وإنَّما يصلح للحرث والسقي والعمل والذبح .
3- قول بني إسرائيل { أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } يدلُّ على سفههم وسوء ظنهم بنبيّهم وعدم توقيرهم له وجهلهم بعظمة الله تعالى وما يجب أن يقابل به أمره من الانقياد والامتثال، لأنهم لو كانوا عقلاء لامتثلوا أمر نبيهم، وانتظروا النتيجة بعد ذلك. ولكنَّهم قوم لا يعقلون. قال فضيلة محمد الخضر حسين عند تفسيره للآية الكريمة: (وقد نبَّهت الآية الكريمة، على أن الاستهزاء بأمر من أمور الدين جهل كبير، ومن الجهل ما يلقى صاحبه في أسوأ العواقب، ويقذف به في عذاب الحريق، ومن هنا منع المحققون من أهل العلم استعمال الآيات كأمثال يضربونها في مقام المزح والهزل، وقالوا : إنما أنزل القرآن الكريم ليتلى يتدبر وخشوع، وليعمل به بتقبل وخضوع ). وفي هذا تنبيه لكثير ممن يستهزئون بتعاليم الدين وأحكامه، وآياته وتشريعاته، فلا يجوز اتخاذها هزوا بأي حال من الأحوال، بل لابد وأن تنال نصيبها من الاحترام والتقدير، والالتزام والامتثال.
4- سؤالهم بهذه الطريقة يوحى بسوء أدبهم مع الله تعالى ومع نبيهم موسى عليه السلام لأنهم قالوا { ادع لَنَا رَبَّكَ } فكأنما هو ربّ موسى وحده، لا ربهم كذلك، وكأن المسألة لا تعنيهم هم إنما تعني موسى وربه. وهذه ليس المرة الأولى، فهم قد قالوا لموسى عليه السلام : " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون".