من العبر المستفادة من قصة بقرة بني إسرائيل ..
4- سؤالهم بهذه الطريقة يوحى بسوء أدبهم مع الله تعالى ومع نبيهم موسى عليه السلام لأنهم قالوا { ادع لَنَا رَبَّكَ } فكأنما هو ربّ موسى وحده، لا ربهم كذلك، وكأن المسألة لا تعنيهم هم إنما تعني موسى وربه. وهذه ليس المرة الأولى، فهم قد قالوا لموسى عليه السلام : " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون".
5- لقد كشف الله لقوم موسى عن الحكمة من ذبح البقرة، لقد كانوا قد قتلوا نفسا منهم، ثم جعل كل فريق يدرأ عن نفسه التهمة ويلحقها بسواه. ولم يكن هناك شاهد؛ فأراد الله أن يظهر الحق على لسان القتيل ذاته، وكان ذبح البقرة وسيلة إلى إحيائه، وذلك بضربه ببعض من تلك البقرة الذبيح .وهكذا كان، فعادت إليه الحياة، ليخبر بنفسه عن قاتله، وليجلو الريب والشكوك التي أحاطت بمقتله؛ وليحق الحق ويبطل الباطل بأوثق البراهين . وهذا يؤكد على قدرة الله في بعث النفوس بعد موتها، وأنه لا يعجز عن إحياء الموتى بعد إماتتهم، وهو دليل على وجود البعث واليوم الآخر. يقول سيد قطب :" إنَّ المسافة بين طبيعة الموت وطبيعة الحياة مسافة هائلة تدير الرؤوس . ولكنها في حساب القدرة الإلهية أمر يسير . . كيف؟ . . هذا ما لا أحد يدريه . وما لا يمكن لأحد إدراكه . . إن إدراك الماهية والكيفية هنا سر من أسرار الألوهية، لا سبيل إليه في عالم الفانين! وإن يكن في طوق العقل البشري إدراك دلالته والاتعاظ بها : { ويريكم آياته لعلكم تعقلون }."
6- هناك أناس رفضوا الأخذ باليسر والبيان والوضوح، ووصلوا إلى التعقيد والعسر والضيق والحرج، والالتباس والاختلاط والاشتباه. وهو حال بني إسرائيل، إذ كان الأمر مختصرا بسيطاً ميسراً، فكلمة بقرة تفيد التنكير، والتنكير يفيد العموم، فأمرهم أن يذبحوا أي بقرة، لا يهم لونها أو حجمها أو عمرها أو عملها أو ثمنها. وهذا لا يمكن أن يشتبه على أحد. إلا أنهم أصروا على الالتفاف والمراوغة في سبيل تضييع الأمر والذهاب بجوهره وحقيقته.
7- الهدف من هذه القصة – كما يشير إلى ذلك د. صلاح الخالدي- يتمثل بالأمور التالية:
- الكشف عن القاتل الحقيقي وتعريف اليهود عليه.
- إقامة الدليل العملي على قدرة الله على إحياء الموتى.
- تقديم آية من آيات الله، ومعجزة من معجزاته، التي تخرق سنن الطبيعة ونواميس الكون، فلم يحصل أن بعث ميت حياً، بضربة من قطعة لحم ميت، إلا عن طريق معجزة ربانية باهرة.
- تعريف الناس بطبيعة اليهود من خلال نظرتهم لأوامر الله وتعاملهم مع أنبيائهم.
- تحذير المؤمنين من أن يتخلقوا بأخلاق اليهود الرذيلة.
إنَّ هذه القصة تقدِّم لنا حقيقة اليهود في التفاوض، فهم إذا كان تعاملهم مع نبيهم موسى عليه السلام بهذه الطريقة، فكيف يكون تفاوضهم مع أعدائهم وكيف يتعاملون معهم؟؟
8- تكشف القصة عن بعض أخلاق اليهود وطبيعتهم المتمثلة بالأمور التالية:
- محاولتهم إخفاء الحقائق، عبر اتهام الأبرياء، والتغطية على القاتل الحقيقي.
- سوء أدبهم مع أنبيائهم، وعدم توقيرهم لهم، وعدم احترامهم لأوامر الله وتعاليمه وأحكامه، ومحاولة التهرب منها والتحايل عليها.
- تأخرهم في تنفيذ أوامر الله، حيث لم ينفذوا الأمر إلاَّ وهم مضطرون مرغمون وما كادوا يفعلون.
- كثرة أسئلتهم فيما لا داعي له، وانشغالهم فيما لا ينفع وبحثهم عما لا يجدي.
- الاهتمام بالشكليات والفرعيات، والالتفات إلى الهامشيات والثانويات، على حساب الأصول والأساسيات.
- الحجارة والجمادات أكثر ليونة وتأثرا وخشوعا من قلوبهم.
إنَّ هذه القصة تقدِّم لنا حقيقة اليهود في التفاوض، فهم إذا كان تعاملهم مع نبيهم موسى عليه السلام بهذه الطريقة، فكيف يكون تفاوضهم مع أعدائهم وكيف يتعاملون معهم؟؟
يقول د. صلاح الخالدي: " إنَّ اليهود لا يملون ولا يضجرون، ولا يسأمون من المفاوضات، لأنهم يتقنون فن التهرب والتملص والتحايل، وهم يتمتعون أثناءها بنفس طويل، وأعصاب باردة، وهم على استعداد لأن يضيعوا فيها الكثير من الجهود والأوقات، وأن يعودوا من حيث بدؤوا مرات ومرات.
إنَّ قضية شكلية هامشية تأخذ من اليهود – ومن الطرف الآخر في المفاوضات- أوقاتاً طويلة، قد تستغرق شهوراً أو سنوات. وإن قضية صغيرة، يعيدون فيها ويزيدون ويقفون أمامها ما يشاؤون، ويكتبون فيها الكتب والمذكرات، ويقومون فيها بالزيارات والرَّحلات بدون ملل أو ضجر.
ليس المهم عندهم حل المشكلة بل هم حريصون على تعليقها وتأخير حلها، وليس المهم عندهم إظهار الحق، بل هم حريصون على تضييقه، وليس المهم عندهم الخروج بنتيجة معقولة، بل هم حريصون على إبقاء القضية في الغموض والضباب وأن يبقوا خصومهم في ضياع وفراغ"
ولهذا لا غرابة حينما نجد علماء الأمة وأبنائها المخلصين يرفضون مسار التفاوض مع المحتل في إرجاع فلسطين السليبة، وذلك بالإضافة إلى كونهم محتلين لا ينفع معهم أيّ حلِّ سوى دحرهم وطردهم من الأرض، فهم اليهود الذين جلت الآيات حقيقتهم، وكشف عن طبائعهم السيئة وقلة أدبهم في الاستجابة لأوامر الله والتعامل مع أنبيائهم.
ختاماً تخلص القصة إلى العديد من الدُّروس والفوائد، منها:
1- وجوب تلقي أوامر الله وأحكام الشريعة لتنفيذها وأدائها، والالتزام الكامل بها، وهذا يعني مسارعة المأمورين بالأداء والتنفيذ.
2- عدم التحايل على أوامر الله أو التملص والتهرب منها.
3- عدم الانشغال بالأمور الثانوية والمسائل الهامشية، لأن البحث فيها لا يجدي ولا ينفع ولأنها مضيعة للوقت والجهد وتعيق التنفيذ.
4- أوامر الله تؤخذ كما هي ولا داعي للزيادة عليها أو الإنقاص منها، ولا داعي للإكثار من المسائل والتفصيلات الفرعية التي لا حاجة لنا بها.
--------------------
المراجع :
1- قصص الأنبياء - د. صلاح الخالدي.
2- في ظلال القرآن - سيد قطب
3- تفسير الشعراوي.
4- التحرير والتنوير - ابن عاشور.