قوة الإرادة … مفتاح الوصول (2-2)

الرئيسية » بصائر للأسرة والمرأة » قوة الإرادة … مفتاح الوصول (2-2)
alt

أشرنا في الجزء السابق من المقال إلى أنَّ الإرادة قرار ذاتي ينبع من عمق إيمان الفرد بقدرته على توجيه إرادته بما أنعم الله عليه من حرية الاختيار، وما ينبني عليها من تحمل النتائج والقيام بمسؤوليات وجوده، المنبثقة من أدواره في الحياة. وأكدنا أنها ليست مجرد ثورة نفسية وحماس مؤقت إنما هي خطة محكمة مبنية على قاعدة تصور الغاية وموازنة الأمور التي تفضي إلى الوصول المطلوب.... وتسعى هذه الحلقة إلى التوضيح كيف تساهم الإرادة في الارتقاء تحقيق الذاتية.

الإرادة ... وجـود وارتقــاء
وجد علماء الفلسفة أنَّ إرادة الوجود ليست إلاَّ إرادة تحقيق "الذاتية" والتي تفرَّد بها الإنسان ككائن بشري، وأثبتوا وجود ما عداه من الكائنات الحية من حيوانات ونباتات ب "الكينونة"، حيث لا يرقى وجودها إلى تحقيق الذاتية، لذا فهي تظل -حتما- دون الذاتية وفي حدود الكينونة. كما أورده أ.عاطف عماره في كتابه (الذكاء وقوة الإرادة).

وتحقيق الذاتية يتمثل بمعرفة الذات وبنائها والارتقاء بها سلوكياً في حسن أخلاق المرء ومعاملاته، وعملياً في إنجازاته ورسالة حياته وما يقدّمه لمجتمعه، وثقافياً وفكرياً في إعمال عقله وتوسيع أفقه، وقلبياً وروحانياً في تصحيح معتقداته وصلته بربّه، وصحياً وجسدياً بما يحفظ نفسه قويّاً معافى ليقوم بحق باقي الجوانب الأخرى. وعليها نجد أنَّ الإرادة نوعين: "الإرادة الموجهة" و"الإرادة العمياء"، وتنشأ اعتماداً على مستويات الإرادة الأساسية.

والمستويات الأساسية كما قسمها د. ماجد الكيلاني هي:
• إرادة الإنسان للغذاء لبقاء الجسم البشري
• وإرادة الإنسان للنكاح لاستمرار النوع الإنساني
• وإرادة العقيدة والقيم ليرتقي الإنسان بنوعه

ويقول: "فإرادة العقيدة والقيم هي الهدف بينما يكون دور كلّ من الإرادتين الأخرتين هو دور الوسيلة المساعدة للوصول إلى هذا الهدف. فالمسلم يريد الطعام والنكاح ولو ترك الطعام فمات لكان منتحرا، ولو ترك النكاح لكان خارجا عن النهج المستقيم".

واعتمادا على تقسيم د. الكيلاني تنتج إرادات فرعية عن تلك الرئيسية، ويتشكل بها الجوهر الإنساني للفرد، فإذا تكاملت وتوازنت بطريقة صحيحة، انتقل الإنسان من "الكينونة" البشرية إلى تحقيق "الذاتية"، وارتقى في سلم الوجود مع عقيدة سليمة وقيم صحيحة تدفعه لمزيد من النجاح والرقي والتقدّم والتفرّد والتميّز الخلاق في ظل "الإرادة الموجهة".

ويعرض القرآن أمثلة لهذه الإرادات الفرعية الإيجابية، ومنها: إرادة الإحسان {إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْسانًا وَتَوْفِيقًا} (النساء:62)، وإرادة الإصلاح {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} (هود:88)، وإرادة النصح {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} (هود: 34)، وإرادة التيسير {وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} (القصص:27)، وإرادة التواضع والصلاح {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسادًا} (القصص:83)، وإرادة الشكر {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} (الفرقان: 62)، وغيرها من الإرادات الحسنة كالتعلم ونشر الخير. وحين يرتقى الإنسان مع هذه الإرادات ويسقيها رعاية واهتماما، يَنْبُت زرع طيب مبارك، ويَحصد الإنسان والمجتمع ثمرة إرادته طـُهرا ويُسرا وعَدلا ربانيا . يقول تعالى {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (المائدة:6) {وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}(الأنفال:7) { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(البقرة:185) {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ}(غافر:31). وصدق الشاعر حين قال:
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فجعل

فإذا لم تتكامل الإرادات الأساسية وتتوازن بالطريقة الصحيحة... وإذا أصبح المأكل والمشرب والشهوة، الموجّه الرَّئيس لإرادة الإنسان دون تقييدها بعقيدة أو مبدأ... وإذا تجرَّدت إرادته من هدف سامي وغاية نبيلة يعيش لأجلها، انحسر وجوده في "الكينونة" البشرية دون تحقيق "الذاتية" الإنسانية لتصبح إرادته "عمياء"، وانبثق عن ذلك إرادات فاسدة مفسدة تقتل الحرث والنفس، فتهوي بصاحبها إلى دركات الكينونة، ومنها: إرادة العدوان {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ} (الإسراء: 103)، وإرادة طمس الحق {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} (الصف:8)، وإرادة الفحشاء {قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} (هود:79)، وإرادة الجبن {إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} (الأحزاب:13)، وإرادة الكيد والمكر {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} (الصافات:98)، وإرادة الجاه {يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} (المؤمنون:24)، وإرادة الإفساد {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ} (النساء:44)، وإرادة الخيانة {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ} (الأنفال:71)، وغيرها من الإرادات الفاسدة. فكيف لا يتسارع في يومه وغده، سيرٌ من قَطَعَ به أمْسُه مَرحلةً نَحو غايته، ومن أيقن أنه يتبع رسولا من أولي العزم صلى الله عليه وسلم، فكيف لا يستمد منه عزمه!!

يقول الشهيد سيد قطب في ظلال قول الله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} (البقرة:35). "لقد أبيحت لهما كلّ ثمار الجنة .. إلاَّ شجرة .. شجرة واحدة ، ربما كانت ترمز للمحظور الذي لا بد منه في حياة الأرض. فبغير محظور لا تنبت الإرادة، ولا يتميز الإنسان المريد من الحيوان المسوق، ولا يمتحن صبر الإنسان على الوفاء بالعهد والتقيد بالشرط. فالإرادة هي مفرق الطريق ...". ولذلك وصف الله أهل الكفر بشر الدواب {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} (الأنفال:22).
وتبقى الإرادة خط فاصل بين "الكينونة" و"الذاتية"، ومقياس تمايز بين مستويات "الذاتية التحررية" ضمن أطر القيم الإنسانية والعقل الواعي والعقيدة الصَّحيحة.

الإرادة ... بين القوة والضعف
حين ننظر إلى من يريد أن يتعلم ركوب الدراجة، نراه في بادئ الأمر لا يضبطها ولا يحقق التوازن المطلوب، بل ويظل يتأرجح يميناً ويساراً. وقد يقع مرَّات عديدة وبعد جهد جهيد ومحاولات عديدة يتقن السير عليها ويتفنن في حركاتها. وهذا حالنا إذا أرادنا أن نملك مفتاح الوصول، علينا أن ندرب أنفسنا، ولا نيأس من كثرة العوائق والمعيقات ولا ننساق للراحة والسكون. ولعل من أهم وسائل تقوية الإرادة:

1. الاستعانة بالله وصدق اللجوء إليه والتوكل عليه. كان من دعاء الرَّسول r: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل".

2. التمرّد على الشيطان والهوى وشهوات النفس والعادات السيئة.

3. الثقة بالنفس التي بثَّ الله فيها من روحه وأحسن مثواها.

4. الجرأة والإقدام وعدم التردّد في الحق والصَّواب.

5. وضع الخطط وترتيب الأولويات التي تبقي أهدافك وغايتك نصب عينيك فلا تنسىاها مع انشغالات الحياة وتواتر أحداثها يقول تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما}.

6. الانخراط في الأعمال التطوعية والمبادرة لفعل الخيرات.

7. ممارسة رياضة بدنية تحتاج إلى عزم وصبر.

8. النظرة الإيجابية الصادقة للنفس.

9. النظر في قصص العظماء وصحبتهم.

إرادتي وإرادتنا
"إرادتي" ... إرادة كل إنسان من بني آدم ... تحققت بها أهدافه وغاياته، دون أن تغره الأحداث أو تشغله الأوهام أو تضعفه العقبات والمثبطات، مستعينا بعون الله ورعايته مستمدا إرادته من إرادة خالقه حتى يقطف حصاد زرعه وجهده وسعيه، ولسان حاله:
دعوني أجد في طلب العلا فأدرك سؤلي أو أموت فأعذرا

ونبصر هذه الإرادة في الشيخ العظيم الشهيد أحمد ياسين الذي أحيا أمَّة كاملة بإرادته وعزمه رغم التشريد والسجن وحالته الصحية إلاَّ أنَّ ذلك لم يشل إرادته وعزمه، ولم يثنه ذلك عن قضيته وغايته وهمه. وحين أراد أعداؤه الجبناء أن يكسروا شوكته ويزيلوا هذا الطود الشامخ الراسخ –وأنّا لهم ذلك- اغتالوه بثلاث صواريخ هيل فاير (Hell Fire) بدون طيار، وتختم حياته بإحياء أمة كاملة واستنهاض الهمم.

أمَّا "إرادتنا" ... فإنها إرادة مجتمع ... وإرادة شعب ... وإرادة أمَّة ... يكون محرّكها وقوّتها الدَّافعة جماعي، فيتجه أصحابها لتحقيق فكرة أو هدف مُتفق عليه. ونجاحها مبني على متانة جذور البنية التحتية للفكرة وصدق الانتماء لها ووحدة رسالتها والحماسة لتنفيذها، وإن تعددت الوسائل واختلفت الاجتهادات لتحقيق الفكرة. وحين نتكلم عن إرادة المجتمعات والشعوب لا يغيب عن ذاكرتنا نهضة غزة بعد حرب الفرقان ودماء الشهداء وأجساد لا زالت تعاني، ولا ننسى ولن ننسى ثورات عام 2011 وشعاراته ... الشعب "يريد" إسقاط النظام، الشعب "يريد" إنهاء الفساد، الشعب "يريد" تغيير النظام، الشعب "يريد" إصلاح النظام، الشعب "يريد" إنهاء الانقسام ... وكأنها رغبة وحاجة سرت في عروق الشعب كله، فأصبحت شهيقهم وزفيرهم الذي يتنفسوه ... وهانت في سبيلها الأرواح والدماء، وتقزّمت معها الخلافات والعصبيات وترفّعوا عن ما يضعفها، فاتحدت القلوب والعقول وسخروا لها أوقاتهم وقدراتهم وطاقاتهم وإبداعاتهم، وربطوا حياتهم ووجودهم بثوراتهم التي ما زالوا يحموها حتى تنجح وتحقق أهدافها ...

تساؤلات لابد منها
هل يكون السبب الرئيسي لنجاح هذه الإرادة الجماعية شعارات رفعوها وكلمات ردّدوها ورايات رفرفوها ...
وهل كانت هذه الإرادة الجماعية مجرّد إرادة السواد الأعظم الذي سرعان ما ينقشع ...
أم أنَّ هناك اتحاداً وتوحيداً لإرادات فردية ذاتية قوية ناجحة في حياتها، ناضلت على مرّ السنين وكافحت وتجاوزت العقبات الصعبة والمحن الشديدة ... فاستطاعت توجهيه وصياغة هذه الإرادة الجماعية لتكون سببا في تحقيق إرادة الشعب والمجتمع وإرادة السواد الأعظم، ليكون العالم والأمة الإسلامية شاهدا على نجاحها!!!

ولهذا أقول: إنَّ كل إرادة فردية ذاتية ناجحة تقود وتورث إرادة جماعية ناجحة، ولا يشترط صحة النقيض!!
وأؤكد أنَّ الإرادة ليست محض صدفة أو حظ، بل هي تربية وإعداد وتهيئة للنفس لتتحمَّل مشاق طريق الوصول.
وإذا اكتفى الإنسان ليحقق أهدافه الشخصية متناسيا مجتمعه الذي هو جزء منه لن تكتمل صحة إرادته وإنسانيته لأنه حصر نفسه في بوتقة "الأنا الكينونية".

الوصول وما أدراك ما هو!!
إنْ كان لعامة الناس أهداف وغايات حدودها وإطارها الدنيا {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} (آل عمران:152)، فإن إرادة المؤمن وأهدافه وغاياته "إرادة عاقلة موجهة"، حَـدها يتجاوز وجوده في دنيا "زائلة" لتمتد إلى عالم آخر... إلى دار "البقاء والخلود"، ليخرج بذاته من حدود الزمان والمكان الضيق إلى عالم فسيح واسع، فيعمل لأجل هذا المكان وهذا اليوم {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} ... فإذا بالإرادة أقوى وأصلب، وإذا بالرؤية أوضح وأشمل، وإذا بالنفس والروح أكثر طمأنينة وثباتا ويقينا متعلقة موصولة بالحق المبين، حتى يتحقق "الوصول" المَوصُول بالخالق سبحانه ... {تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ}، ليكون اللقاء تحت عرش الرحمن في جنات الفردوس الأعلى.

ولا يكون هذا الوصول -الذي لا يضل من يسلك طريقه- إلا بدعوة لله دائمة، وتعاهد صحبة ربانية صالحة، وانفراد القلب بمعرفة خالقة .. طاعة وتحقيقا لمراده، وعدم الالتفات والتلفت للشهوات والراحة والدعة. كما أخبرنا سبحانه في قوله تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف:28 ) ... معنى لا يدركه إلا من عَقِل معنى "لقاء الله" ويوم "الحساب".

"فكيف لا يتسارع في يومه وغده، سيرٌ من قَطَعَ به أمْسُه مَرحلةً نَحو غايته، ومن أيقن أنه يتبع رسولا من أولي العزم صلى الله عليه وسلم، فكيف لا يستمد منه عزمه!! (د. محمد الراشد)"

مراجع للاستزادة:
مقوّمات الشخصية المسلمة- د. ماجد عرسان الكيلاني
الذّكاء وقوة الإرادة - أ. عاطف عمارة

 

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

alt

إقرار أول قانون للحماية من العنف المنزلي في السعودية

قال مسؤول في مجال حقوق الإنسان إن السعودية أقرت قانونا مهماً يهدف إلى حماية النساء …