لا تزال معركة الرَّبيع العربي مستمرة، ولئن كان لها نتائج؛ فإنَّ أهمها هو أنها كانت بداية التمكين للمشروع الإسلامي الصحوي، وبرنامج النهضوي المتعدّد الأوجه والشامل لمختلف جوانب النهضة والتنمية المنشودة، والتي حُرِمَتْ منها الأمَّة لعقود طويلة، بسبب سيطرة أنظمة الفساد والاستبداد على مقاليد الأمور، وتحالفها مع قوى الاستكبار العالمي، من أجل إدخال الأمة في نفق التخلف الحضاري الشامل المظلم.
وبالتالي؛ فإنَّ من بين أبرز تداعيات ربيع الثورات العربيَّة المرتبطة بهذه المسألة، أنها أدت إلى الكثير من التحولات البنيويَّة لدى أصحاب هذا المشروع من حركات وجماعات، وكذلك أشخاص، وذلك على مختلف المستويات، بما في ذلك أدواتها الحركيَّة ومفردات ومفاتيح مخاطبتها للجماهير والشعوب، والتعامل مع النُّخَب.
ومن بين أبرز هذه التحوّلات، طبيعة الخطاب السياسي والإعلامي، سواء من حيث مفرداته أو أدواته، وكذلك الجمهور المستهدف له، من النُّخَب إلى الشعوب مباشرة.
وإذا أخذنا حالة الإخوان المسلمين في مصر وفي غيرها من البلدان العربيَّة التي شهدت تجربة ثوريَّة شعبيَّة في غضون العامَيْن الأخيرَيْن، مثل تونس، أو حتى تأثرت بما جرى، وإن لم تشهد حراكًا شعبيًّا مثيلاً، كما في المغرب والأردن؛ فإننا سوف نلحظ ملحظًا شديد الأهميَّة، وهو أنَّ الغالب على خطابها السياسي والإعلامي، الجانب الشعبي أو الشعبوي، وليس النخبوي، كما كان الحال في الماضي.
ومن خلال تحليل مضمون سريع، أو قراءة معمّقة بعض الشيء، في أدبيات الحركات والأحزاب المحسوبة على تيار الإخوان المسلمين في مصر وتونس والمغرب والأردن، وغيرها من دول العالم العربي؛ فإنَّ هناك ملامح مشتركة لا تخطئها العين.
أول هذه الملامح أنَّ الجمهور المستهدف بالخطاب، هو الشعوب، وأنَّ القضايا التي تتناولها هذه الأدبيات- مثل البيانات ومقالات الرَّأي لرموز هذه الأحزاب والحركات- قضايا تمس بالأساس صميم مشاكل واهتمامات وأشواق الشعوب، بمختلف طوائفها وشرائحها، وليس فقط شريحة أو طبقة واحدة، كما كانت تفعل الأحزاب الحاكمة سابقًا في مجتمعاتنا، التي كانت تركز على مصالح النخب الحاكمة، من رجال أعمال وقيادات سياسيَّة وأمنيَّة وعسكريَّة نافذة.
عوامل تحوُّل!
وهناك عددٌ من العوامل التي ساهمت في ترسيخ هذا الوضع، بل وفرضته على الإخوان المسلمين، أولها أنَّ الشعوب صاحبة "العُرْس" لو صح التعبير، وهي التي قامت بالثورات، وهو أمر له العديد من الأبعاد، فالشعوب هي صاحبة الشرعيَّة، وقد استردتها، وهي قامت بالثورات لأن لها مطالب مشروعة يجب تحقيقها من جانب أصحاب السلطة الجُدد؛ وإلا فإن ذلك معناه إهدار تضحيات الشعوب خلال أيام الثورة، ويعني أيضًا تعريض المرحلة الجديدة التي دخلها المشروع الإسلامي للخطر، وضياع جهود عقود طويلة من العمل والتضحيات.
الجانب الآخر، هو أنَّ التحولات التي طرأت على الأوضاع القانونيَّة والسياسيَّة للحركات والأحزاب المحسوبة على تيار الإخوان المسلمين، فرضت عليها التحول بشكل شبه كامل للخطاب الموجه للشعوب؛ فهي لم تعد أحزاب وحركات معارضة "محظورة"، تعمل في السِّر والخفاء؛ فهي توَّلت الحكم بالفعل، ومن لم يتول الحكم منها، بات صاحب شرعيَّة قانونيَّة ومشروعيَّة شعبيَّة.
حمَّلت الإخوان المسلمين الكثير من المهام والأعباء، فهي عليها أن تتصرَّف كحكومات مسؤولة عن طموحات وآمال الشعوب، وكذلك مسئولة عن المهمة الأساسيَّة لأيّ نظام حاكم أو حكومة منذ فجر التاريخ
هذه الوضعيَّة حمَّلت الإخوان المسلمين الكثير من المهام والأعباء، فهي عليها أن تتصرَّف كحكومات مسؤولة عن طموحات وآمال الشعوب، وكذلك مسئولة عن المهمة الأساسيَّة لأيّ نظام حاكم أو حكومة منذ فجر التاريخ، ومنذ ظهور الحكومات والأنظمة السياسيَّة، وهي تحسين مستوى رفاهية الشعوب، وضمان أمنها واستقرارها، وضمان أنَّ غدها أفضل من يومها.
وهذا بطبيعة الحال يتطلب تنفيذ برامج عمليَّة على أرض الواقع، وهو ما يتطلب بدوره عددًا من الأمور، أولاً المزيد من التفاعل مع الشعوب؛ لمعرفة مطالبها وتطلعاتها وأولوياتها في المرحلة الراهنة والمستقبل المنظور والبعيد، وثانيًا التعاون مع الشعوب لاستكمال المشوار الثوري، وبدء مشروع النهضة الشامل؛ فلا الشعوب وحدها أو الإخوان المسلمون وحدهم قادرون على ذلك بمعزل عن الطرف الآخر للمعادلة.
دافع آخر لهذه الحالة من التحوّل في الخطاب والحركة من النخبويَّة إلى الشعبويَّة، من جانب الإخوان المسلمين، هو تحصين المشروع؛ فالشعوب هي الدرع الواقي الوحيد أمام المشروع الإسلامي في مواجهة فلول الأنظمة السَّابقة التي تمَّ خلعها في الثورات الشاملة الأخيرة التي اندلعت في العالم العربي، وللعلم؛ فإنَّ المعركة مع فلول هذه الأنظمة أكبر وأخطر من المعركة مع رؤوس هذه الأنظمة، والتي تمت الإطاحة بها؛ حيث الصراع هذه المرة مع قوى مجتمعيَّة متجذرة بمن خلال ثنائيَّة الفساد والمال، ومع قوى الدول العميقة في مجتمعاتنا.
في الإطار أيضًا؛ فإنَّ النُّخَب العربيَّة، لم تُبدِ الكثير من المودة إزاء صعود القوى الإسلاميَّة، وتحديدًا الإخوان المسلمين، إلى سدَّة الحكم، بل وفضل بعضها، كما في حالة بعض الأحزاب الليبراليَّة في مصر وتونس، التعاون مع القوى القديمة المتنفذة، بما فيها قوى فاسدة أدَّت لضياع الأمَّة ومجتمعاتنا لعقود طويلة، بحاجة لقرون لإزالة تأثيراتها.
ليست تناقضات
البعض رأى في هذه التحوّلات، رغم منطقيتها تناقضًا من جانب الحركات الإسلاميَّة والإخوان المسلمين في حراكهم وخطابهم، والبعض عدَّه "نكوصًا" يصل إلى حدِّ "الخيانة" لـ"قوى الكفاح القديمة"، التي كان الخطاب الإخوان يركز عليها، وهؤلاء على باطل في قولهم هذا.
فالتحوّلات منطقيَّة بالتحولات الشاملة التي طرأت سواء على مستوى الإخوان المسلمين أو مستوى المجتمعات التي تعيش وتتفاعل فيها؛ فبأبسط معنىً؛ فإن الشعوب استردت شرعيتها المفقودة، وعرضت مطالبها كما قلنا، بينما تحوّل الإخوان من جماعات محظورة إلى أحزاب سياسيَّة وقوى لها شرعيتها، أهلتها للوصول للحكم، في المقابل؛ فإن الكثير من النخب- إلا مَن رَحِم ربي منها- لم تُثبت أنها أهل للتعاون والخطاب، بعد تحالفها مع الدولة العميقة لإسقاط التجربة الإسلاميَّة.
كما أنَّ طبيعة المرحلة فيما قبل الربيع العربي، عندما كانت قوى الاستبداد قائمة، كان العامل الأمني والسياسي ضاغطًا لدرجة القسوة للحؤول دون وصول الإخوان المسلمين إلى الشارع ومخاطبته، وكان الأمل الوحيد هو حشد النخبة من أجل ضمان تكوين جبهة عريضة تعمل على حشد الشارع وتثويره، في المقابل فضلت بعض النُّخَب التعاون مع الأنظمة القديمة من باب "التُّقَيَّة" أو طمعًا في مكاسب انتخابيَّة هزيلة.
كما أنَّ ذلك لا ينفي شعبويَّة أصيلة كانت في خطاب وفعل الإخوان المسلمين في مرحلة ما قبل ربيع الثورات العربية، فالجانب المجتمعي والدعوي في نشاط الإخوان المسلمين كان ربما هو العامل الرئيسي- بعد توفيق الله عز وجل- في حشد وتحريك الشارع، وتحقيق النجاح الثوري الذي تحقق.
وفي الأخير؛ فإنَّ الإخوان المسلمين أثبتوا براجماتيَّة رشيدة في تحوّلاتهم الأخيرة، سواء على مستوى الخطاب أو السياسات، ويبقى أن تتعاون الشعوب والمجتمعات فيما بينها لاستكمال المشروع والمسيرة.