الحمد لله أن أنعم على أمة محمد بليلة هي خير من ألف شهر، ليلة مباركة، فيها يُفرَق كل أمر حكيم، ليلة يتمنى كل مسلم أن يدرك فضلها وخيرها، ولعل ما بقي من رمضان فيه من الخير ما فيه، فقد تكون ليلة القدر فيما تبقى من الليالي، إضافة إلى آخر ليلة حيث يوفي الله الصائمين أجورهم، وإضافة إلى نسمات الخير في الشهر نفسه، ما بقي منه، فاللهم لا تجعل رمضان يغادرنا إلا بذنب مغفور، وعتق من النار مبرور.
لقد وصف الله ليلة القدر بأنها التي نزل فيها القرآن، ومعلوم أن للقرآن تنزلين، مرة واحدة إلى السماء الدنيا، وهذا الذي كان في ليلة القدر، ونزولاً مفرَّقاً على قلب النبي صلى الله عليه وسلم طيلة ثلاث وعشرين سنة، وهي مدة البعثة. ووصف ليلة القدر بأنها خير من ألف شهر، وبأنها تتنزل فيها الملائكة والروح الذي هو جبريل، وأنها سلام حتى مطلع الفجر.
وأقف قليلاً عند كلمة (القدر)، فإذا عرفنا معانيها، ربما يكون هذا حاثاً لنا على ضرورة إدراك خيرها وفضلها بالتعب والجلد، فهي فرصة لا تعوض، فمن معاني (القدر) التقدير والتعظيم والتضييق، فهو سبحانه يخبر أنه خلق كل شيء وقدره تقديراً، وخلق كل شيء بقدر، ومن هنا تأتي الآية الأخرى في سورة الدخان (فيها يفرق كل أمر خكيم)، وقال بعض العلماء أن الله يقدر في تلك الليلة ما يكون في العام كله، وكلنا يحب أن يكون ما قدره الله له خيراً وحسناً، فليحرص أحدنا إذاً على إحياء تلك الليلة.
ومن المعاني: التعظيم، فهي ليلة عظيمة، ومحييها ذو شأن عظيم عند الله سبحانه، ونأخذ هذا المعنى من قوله سبحانه (وما قدروا الله حق قدره)، أي ما عظموه حق التعظيم، ومن هنا فإن ليلة القدر عظيمة، فيها من الخير والعتق من النار ونزول الملائكة تشهد مجالس الذكر وتحيط بالمؤمنين، ليلة خير من ألف شهر، ومن هنا فشأنها عظيم، ومن أحياها بالعبادة فكأنما عبد الله ألف شهر وأكثر، فهي خير من ألف شهر، وهذه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كانت الأمم السابقة معمرة، بينما أعمار أمة محمد بين الستين والسبعين.
والمعنى الثالث للقدر هو التضييق، مأخوذ من قوله تعالى (وأما إذا ما ابتلاه فقَدَرَ عليه رزقه..)، ومعناه في سياق الليلة المباركة أن الأرض تضيق من كثرة ما يتنزل فيها من الملائكة، ولنا في نزول الملائكة أن نتخيل ونتدبر، فهو نزول بأمر من الله، أن تحيط بالمؤمنين، تدعو لهم، تترحم عليهم، تصلي عليهم، تتفقد أحوالهم، تشهد مجالس الذكر والخير، هي ليلة مميزة إذاً، تختلط فيها جباه المؤمنين مع روحانية الملائكة، كل يسبح بحمد الله، كل خاضع لله خائف منه وراج عفوه ورضوانه، مشهد عظيم يترك في نفس المؤمن أثراً فيما بعد رمضان، يتذكر فيه أياماً خالية ناجى فيها ربه، ورجاه ودعاه وتبتل إليه وتاب وأناب، فيحرص على أن لا يلطخ صفحته البيضاء.
وهذه المعاني مجتمعة مرادة كلها في ليلة القدر، من شأن المؤمن أن يصبر على قيامها، وسؤال الله تعالى ما يريد من أمري الدنيا والآخرة، ويكون صيامه وقيامه عبادة خالصة لله، لا مجرد عادة تعود فيها أن يصوم أو يصلي أو يحيي الليالي، وهنا بيت القصيد في كيفية النهوض بطاعاتنا أن تكون عبادة لا عادة، عبادة حقيقية نستشعر من خلالها قيمة الصلاة والصيام والذكر والحج والزكاة، حتى الوضوء، فشتان بين من يتوضأ عادة، ومن يتوضأ عبادة يستشعر مع غسل كل عضو خروج الخطايا، ولباسه النور من الله تعالى، ما أجمل استصحاب النية من جهة، واستشعار أهمية الفريضة من جهة أخرى، وبالمحصلة: ما أجمل الطاعة الخالصة لله تعالى.
وتجيء ليلة القدر هذا العام وأحوال الأمة الإسلامية ما بين شد وجذب، فمع فرحتنا بما حصل لإخواننا في ليبيا، وما جرى درس لكل الطغاة أن يعلموا أن إرادة الشعوب أقوى من إرادة الظالمين المتجبرين، وأن إرادة الله فوق إرادة الجميع، فهو سبحانه مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، وفي المقابل، ومع الحراك الموجود في أكثر من بلد عربي، فإننا نجأر إلى الله بالدعاء أن يعجل بالفرج على إخواننا في سوريا واليمن، وأن يفرج على إخوتنا في فلسطين والعراق والصومال، وأن يوحد صفوف المسلمين، ويدحر الظالمين والمنافقين.
تجيء ليلة القدر هذا العام متميزة عن غيرها، فإنها هذا العام والمسلمون في شعور بالقوة والحرية والاعتزاز بالله تعالى وبالثقة بانفس وبالله تعالى، نريد من كل مسلم أن يراجع حساباته، ويتوب إلى الله تعالى من كل وهن وجبن وخنوع ورضى بالدون، فالمسلم عزيز ذو همة وذو شأن عظيم، لا يطأطئ الرأس إلا لله الواحد الأحد، لا يرجو أحداً إلا الله، ولا يخشى أحداً إلا الله، فما أجمل لحظات الشعور بالعزة، الشعور بالأمل بالله تعالى أنه ناصر جنده ولو بعد حين.
ليلة القدر خير من ألف شهر، لنعش هذا الخطاب وهذه الحقيقة، ليلة أفضل من ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر، أمر غير معقول للإنسان، لكنه من الله معقول، بل ربما في كلمة (خير) ما هو أعظم من المذكور المعدود، فالله يضاعف لمن يشاء سبحانه، بحسب حاله ومشاعره وصدقه مع الله.
ونبشر المؤمنين بأن الله ذكر ليلة القدر كلها، وأنها سلام حتى مطلع الفجر، ويهمني هنا أنها حتى مطلع الفجر، فكل من قام ولو جزءاً منها فقد أدركها، لأنها ليلة متكاملة، وليست ساعة في ليلة، وهذه من نعم الله علينا، ولكن من الأفضل الاستغلال الأكبر لها، ذكراً وصلاة وإنابة ورجاءً، وعلمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نقول فيها: (اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا)، فهي ليلة العتق من النار، هي ليلة السلام والراحة والطمأنينة، ليلة يفتح فيها أحدنا صفحة جديدة مع خالقه ورازقه وحافظه، فيسير على الصراط المستقيم، ويبدأ مسيرة طيبة صحيحة مع الله، ما أجملها من لحظات أن يشعر أحدنا أنه في ذمة الله وكنفه، ما أجمله من شعور أن تكون في جيبك بطاقة من رب العالمين مكتوب عليها: بريء من النار، شعور طمأنينة وسعادة، ليعشه كل واحد منا، فالله غفور رحيم