ها هي الأيام المعدودات لرمضان توشك أن تنقضي وتودِّعنا بما حملت لنا من خير وبركة، وما تزوّدنا فيها من صيام وقيام وذكر وعمل صالح .. ما تبقى من هذه الأيام والليالي له ميزة وخصوصية انفرد بها عن بقية أيامه ولياليه ..
ما تبقى من شهر رمضان هو العشر الأواخر .. هذا العشر الذي كان يخصّه النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام بالاجتهاد في العبادة بأنواعها كافة من قيام وتلاوة واعتكاف وذكر وتسبيح وصدقة وغيرها، فقد بوَّب الإمام البخاري في صحيحه باب سمَّاه : (باب العمل في العشر الأواخر من رمضان)، وأورد فيه الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان النبيُّ صلى الله عليه و سلم إذا دخل العشر شدَّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله)).
قال سفيان الثوري: (أحبّ إليَّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه وينهض أهله وولده إلى الصَّلاة إن أطاقوا ذلك)
قال القرطبي في (المفهم) : (وفيه حثٌّ الأهل على القيام للنوافل، وحملهم على تحصيل الخير والثواب. ويفهم منه تأكيد القيام في هذا العشر على غيره).
قال سفيان الثوري: (أحبّ إليَّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه وينهض أهله وولده إلى الصَّلاة إن أطاقوا ذلك)، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنَّه كان يطرق فاطمة و عليا ليلا فيقول لهما ألا تقومان فتصليان و كان يوقظ عائشة بالليل، كما ذكره ابن رجب في لطائف المعارف.
وفي شرح الحديث، قال الملا علي القاري في مرقاة المفاتيح : (شدَّ مئزره بكسر الميم أي إزاره وهو عبارة عن القصد والتوجه إلى فعل شاق مهم كتشمير الثوب. وهو يؤيد أن المراد بالشد المبالغة في الجد قال النووي قيل معنى شد المئزر الاجتهاد في العبادات زيادة على عادته عليه الصلاة والسلام في غيره ومعناه التشمير في العبادة يقال شددت في هذا الأمر مئزري أي: تشمَّرت له وتفرَّغت . وقيل: هو كناية عن اعتزال النساء وترك النكاح ودواعيه وأسبابه وهو كناية عن التشمير للعبادة والاعتزال عن النساء معاً).
وقال ابن حجر في فتح الباري : (قوله : (وأحيا ليله) أي: سَهِرَهُ فأحياه بالطّاعة وأحيا نفسه بِسَهَرِهِ فيه؛ لأَنَّ النَّوم أخو الموت . وأضافه إلى اللَّيل اِتِّسَاعًا، لأَنَّ الْقائم إذا حَيِيَ باليقظة أَحيا لَيْلَهُ بحياته، وهو نحو قَوْله: ((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا)). أي: لا تناموا فتكونوا كالأَموات فتكون بيوتكم كالقبور).
قال الصَّنعاني في سبل السَّلام: (وإنّما خَصَّ بذلك صلَّى اللَّه عليه وسلَّم آخر رمضان لقرب خروج وقت العبادة فيجتهدُ فيه؛ لأَنَّه خاتمة العمل والأَعمال بخواتيمها)
وقوله: ( أيقظ أهله) أي: للصلاة والعبادة، قال الصَّنعاني في سبل السَّلام: (وإنّما خَصَّ بذلك صلَّى اللَّه عليه وسلَّم آخر رمضان لقرب خروج وقت العبادة فيجتهدُ فيه؛ لأَنَّه خاتمة العمل والأَعمال بخواتيمها). وقال ابن بطّال في شرح صحيح البخاري: (من الفقه أنَّ للرِّجل أن يحضّ أهله على عمل النوافل، ويأمرهم بغير الفرائض من أعمال البر، ويحملهم عليها).
وأخرج البخاري في هذا الباب أيضاً عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعتكف العشر الأواخر من رمضان)).
وعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلَّم: ((أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده)).
فالاعتكاف في اللغة اللبث مطلقاً، ويقال: الاعتكاف والعكوف الإقامة على الشيء وبالمكان ولزومها في اللغة ومنه يقال لمن لازم المسجد عاكف ومعتكف. وفي الشَّرع الاعتكاف الإقامة في المسجد واللبث فيه على وجه التقرّب إلى الله تعالى، ذكره الإمام العيني في (عمدة القاري).
وبوَّب الإمام مسلم في صحيحه باباً سمَّاه: (باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان)، أورد فيه قول عائشة رضي الله عنها : ((كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره)).
ليلة مباركة ..
وفي العشر الأواخر من رمضان ليلة مباركة هي خير من ألف شهر، قال الله تبارك وتعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}. (القدر:3). قال الإمام البغوي في تفسيره : (أبهم الله هذه الليلة على هذه الأمَّة ليجتهدوا في العبادة ليالي رمضان طمعًا في إدراكها ، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، وأخفى الصَّلاة الوسطى في الصلوات الخمس، واسمه الأعظم في الأسماء، ورضاه في الطَّاعات ليرغبوا في جميعها، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها، وأخفى قيام الساعة ليجتهدوا في الطاعات حذرًا من قيامها). وفي معنى هذه الآية الكريمة، قال المفسرون : (عملٌ صالح في ليلة القدر خير من عَمِل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر).
وفي العشر الأواخر من رمضان ليلة مباركة هي خير من ألف شهر، قال الله تبارك وتعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}. (القدر:3).
لكنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أرشدنا إلى تحرّي هذه الليلة المباركة في أيام مخصوصة، فعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان)). صحيح البخاري). وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى)). (صحيح البخاري).
وثبت عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم : ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)).
ولا يقتصر العمل الصَّالح في هذه الليلة عن القيام فحسب، بل يشمل جميع أنواع الطاعات والمبرّات، وما أكثرها في هذا الزمن الصعب الذي نعيشه، فمناصرة المسلمين المستضعفين المضطهدين في كلِّ بقاع العالم بالمال والدعاء ومشاركتهم الأحزان عمل صالح مبرور، وإدخال الفرح والسرور على العائلات الميسورة بالمساعدة والمآزرة عمل صالح مشكور، والسعي في خدمة الإخوان ودعوة الأقارب والخلّان إلى مكارم الأخلاق عمل صالح محمود ...
ولا يقتصر العمل الصَّالح في هذه الليلة عن القيام فحسب، بل يشمل جميع أنواع الطاعات والمبرّات، وما أكثرها في هذا الزمن الصعب الذي نعيشه
وفي ليلة القدر دعاءٌ مسنون، فعن عبد الله بن بريدة أنَّ عائشة قالت للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلم: إن وافيت ليلة القدر فما أقول؟ قال: (( قولي: اللهم إنَّك عفوٌّ تحبُّ العفوَ فاعف عنِّي)). (الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد). قال سفيان الثوري : الدُّعاء في تلك الليلة أحب إلي من الصلاة قال: وإذا كان يقرأ وهو يدعو ويرغب إلى الله في الدًّعاء والمسألة لعلَّه يوافق.
زكاة الفطر ..
ذكر ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف: (أنَّ الصِّيام لا بد أن يقع فيه خلل أو نقص، و تكفير الصِّيام للذنوب مشروط بالتحفظ ممَّا نبغي التحفظ منه، وعامة صيام الناس لا يجتمع في صومه التحفظ كما ينبغي، ولهذا نهى أن يقول الرَّجل : صمت رمضان كله أو قمته كله، فالصَّدقة تجبر ما فيه من النقص والخلل، ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصَّائم من اللغو و الرفث).
الصَّدقة تجبر ما فيه من النقص والخلل، ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصَّائم من اللغو و الرفث
فعن يحيى بن يحيى قال: ((قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على كل حرٍّ أو عبدٍ ذكر أو أنثى من المسلمين)). (صحيح مسلم).
الصَّدقة تجبر ما فيه من النقص والخلل، ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصَّائم من اللغو و الرفث
وعن نافع عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم : ((أنَّه أمر بإخراج الزَّكاة زكاة الفطر أن تؤدّى قبل خروج النَّاس إلى الصَّلاة)). (مسند الإمام أحمد).
اللهم ارزقنا في العشر الأواخر همَّة عالية للاجتهاد فيها بالطاعات والمبرّات والأعمال الصَّالحات، وتقبّل ذلك منَّا إنَّك سميع مجيب الدَّعوات.