قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله و رسوله أحب إليه من سواهما، و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله..)).. هو الحب في الله أسمى وأعلى درجات الحب، و أمتن روابط القلوب، و أوثق عرى النفوس...إنَّه الحب الأطهر الذي تتعلق فيه القلوب والأرواح وحتى العقول.. هو أعظم القربات وبها يلتحق المتحابون إلى الدَّرجات العلى.. وقد أوجب الله محبته للمتحابين فيه: عن معاذ رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ ، والمتجالسين فيّ والمتزاورين فيّ ، والمتباذلين فيّ )).. (مسند أحمد).
ذلك الحب الذي كرَّمه الله وأعطى أصحابه من العزّ و الشّرف و الجاه ما يغبطهم عليه الأنبياء و الشهداء، فهم في ظل الله على منابر من نور في مقام كريم... ينادي الله يوم القيامة : (( أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم بظلي يوم لا ظل إلا ظلي))، و قال: ((المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون و الشهداء)).. (صحيح مسلم).
وللصُّحبة شروط، قال علقمة : أصحب من إن صحبته زانك ، و إن أصابتك خصاصة عانك، وإن قلت سدّد مقالك ، وإن رأى منك حسنة عدّها، وإن بدت منك ثلمة سدّها ، وإن سألته أعطاك ، وإذا نزلت بك مهمة واساك ، وأدناهم من لا تأتيك منه البوائق، ولا تختلف عليك منه الطرائق...
قال عليٌّ رضي الله عنه :
فلا تصحب أخا الجهل و إيَّاك و إيَّاه
فكم من جاهلٍ أردى حليماً حين آخاه
يُقاس المرءُ بالمرء إذا ما المرء ماشاه
وللشيء على الشيء مقاييس و أشباه
وللقلب على القلب دليل حين يلقاه
و قد أرسى رسولنا الكريم حق المسلم على المسلم : (( حقّ المسلم على المسلم ستّ : إذا لقيته فسلّم عليه ، و إذا دعاك فأجبه ، و إذا استنصحك فانصح له ، و إذا عطس فحمد الله فشمته ، و إذا مرض فعده ، و إذا مات فاتبعه )). (متفق عليه).
وهناك حقوق أخرى بين المتحابين توجبها وتفرضها هذه المحبَّة ، ويُسْتَدل بها على صدق الأخوة وصفاء الحب ، منها : أن تحسب حساب أخيك فيما تجره إلى نفسك من نفع ، أو ترغب بدفعه عن نفسك من مكروه ، وقد أوصى النبي- صلى الله عليه وسلم- أبا هريرة بقوله : (( وأحب للمسلمين والمؤمنين ما تحبه لنفسك وأهل بيتك ، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك ، تكن مؤمناً )). رواه ابن ماجه .
ومنها ما تقدمه لأخيك من دعوات صالحات حيث لا يسمعك ولا يراك ، وحيث لا شبهة للرياء أو المجاملة ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ((دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة ، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به : آمين ولك بمثل )) رواه مسلم ، وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه ، دعا لأخيه بتلك الدعوة ، لأنها تستجاب ويحصل له مثلها . قال عليه الصَّلاة والسَّلام : (( ما تواد اثنان في الله فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما )).
ومنها الوفاء والإخلاص والثبات على الحب إلى الموت ، بل حتى بعد موت الأخ والحبيب ببر أولاده وأصدقائه ، وقد أكرم النبي - صلى الله عليه وسلم - عجوزاً جاءت إليه ، وقال : ( إنَّها كانت تغشانا أيام خديجة ، وإن حسن العهد من الإيمان ) (رواه الطبراني) ، ومن الوفاء أن لا يتغير الأخ على أخيه ، مهما ارتفع شأنه ، وعظم جاهه ومنصبه .
ومنها التخفيف وترك التكلف ، فلا يكلِّف أخاه ما يشق عليه ، أو يكثر اللوم له ، بل يكون خفيف الظل ، قال بعض الحكماء : (من سقطت كلفته دامت ألفته ، ومن تمام هذا الأمر أن ترى الفضل لإخوانك عليك ، لا لنفسك عليهم ، فتنزل نفسك معهم منزلة الخادم ) .
وإن دخل الشيطان بين المتحابين يوماً من الأيام ، فحصلت الفرقة والقطيعة ، فليراجع كل منهما نفسه ، وليفتش في خبايا قلبه فقد قال عليه الصَّلاة والسَّلام : (( ما تواد اثنان في الله فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما )). رواه البخاري في الأدب المفرد.
و إذ نحن اليوم في زمن المادة و اختلال الموازيين و فقدان القلب الصافي، فنحيا أجساداً بلا أرواح، فما أحوجنا لروح تعانقنا و تسمو بنا إلى حظوظ الآخرة وتجمع شتات القلب بحبل الله فأنس المؤمن التام لا يكون إلا بالله و مع الله و تلك نعمة ما بعدها نعمة.. يقول ابن القيم : (إذا أصبح العبد وأمسي وليس همّه إلا الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها وحمل عنه كل ما أهمه وفرغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره وجوارحه لطاعته وان أصبح وأمسي والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله إلى نفسه فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق ولسانه عن ذكره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم)..
وبهذا الحب استطاع الرَّسول الكريم أن يبني المجتمع الأمثل القائم على هذه الأخوَّة الإيمانية و التي أساسها و ركيزتها الإيمان و التقوى و الاعتصام بحبل الله ، فتحوّل أعداء الجاهلية إلى إخوة و تجمعت القلوب المتنافرة فأنقذهم الله من النار.
فلنتمسك بهذا الحبّ الطاهر العفيف الذي يزيدنا قرباً وحبّاً من الله .. ولنتذكر أننا بتلك المشاعر الأخوية التي فيها صفاء القلوب ونقاء الأرواح نرتفع درجات عند الله وأننا مع من أحببنا نلتقي يوم القيامة على منابر من نور يغبطنا الأنبياء والشهداء ... جمعنا الله وإيَّاكم في جنات النعيم ...