من الآفات الخطيرة التي تصيب السَّائرين إلى الله سبحانه، الفتور والانقطاع بعد الهمَّة والنشاط، فالاندفاع والاستعجال وتحميل النفس ما لا تطيق دفعة واحدة يجعلها تنقطع ويصيبها الفتور والملل بعد الجدِّ والعمل، ولله درّ صاحب الحكمة القائلة والمثل البليغ: (إنَّ المنبَّت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى).
فالعمل القليل الدّائم خير وأنفع من الكثير المنقطع، وقد أوصى المولى تبارك وتعالى نبيّه صلَّى الله عليه وسلّم بعدم الانقطاع وضرورة مواصلة العمل بالعمل، فقال عزّ وجل:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}. (الشرح:7-7).
لله درّ صاحب الحكمة القائلة والمثل البليغ: (إنَّ المنبَّت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى).
قال ابن عبَّاس وقتادة: فإذا فرغت من صلاتك فَانْصَبْ أي بالغ في الدُّعاء وسله حاجتك. وقال ابن مسعود: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل. وقال الكلبي: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فَانْصَبْ أي استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات. وقال الحسن وقتادة أيضاً: إذا فرغت من جهاد عدوك، فانصب لعبادة ربك. وعن مجاهد: فَإِذا فَرَغْتَ من دنياك، فَانْصَبْ في صلاتك. وقال الجنيد: إذا فرغت من أمر الخلق، فاجتهد في عبادة الحق.
هذا ما ورد عن الصَّحابة والتابعين والصَّالحين في تفسير هذه الآية، ولعلَّ معناها شامل لجميع العبادات والأعمال الصالحات، لأنَّ المطلوب هو الاستمرار وعدم الانقطاع، فأحبُّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها : أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم قال: ((سدِّدوا وقاربوا واعلموا أنَّه لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأنَّ أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل )).
عمله صلَّى الله عليه وسلّم كان ديمة شهر رمضان وغيره، وأنَّه كان إذا عمل عملاً أثبته وداوم عليه
وفي صحيح ابن حبَّان عن علقمة قال : سألت عائشة عن عمل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت : (( كان عمله صلَّى الله عليه وسلَّم ديمة )). قال الإمام النووي: (قولها كان عمله ديمة هو بكسر الدال وإسكان الياء أي يدوم عليه ولا يقطعه). والديمة المطر الدائم، شبهت عائشة رضي الله عنها عمله في دوامه بديمة المطر. وقال الإمام العيني في ذكر ما يستفاد من هذا الحديث : (أنَّ عمله صلَّى الله عليه وسلّم كان ديمة شهر رمضان وغيره، وأنَّه كان إذا عمل عملاً أثبته وداوم عليه).
ستٌ من شوال ..
من الاستمرارية في عبادة الصَّوم بعد شهر الصوم، صيام ست من شوال، ففي صحيح ابن حبَّان عن أبي أيوب الأنصاري عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم قال: ((من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فذلك صوم الدَّهر)). وفي سنن أبي داود : ((من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فكأنما صام الدَّهر)).
ورتّل القرآن ..
شهر القرآن، شهر رمضان يحرص النَّاس فيه على قراءة جزء أو أكثر خلال اليوم، وتلك عبادة قيّمة تعود بالنفع والأجر على صاحبها في قلبه ونفسه وجوارحه، فمواصلة هذه التلاوة بعد شهر رمضان استمرار لتلك اللذة والحلاوة باستشعار وتدبر آيات الله سبحانه، وارتقاء في المنازل يوم القيامة، عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال : ((يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)). (صحيح ابن حبّان ومسند أحمد).
مدرسة الصَّبر ..
وهو السرّ في تمني سلفنا الصَّالح أن لو كانت السنة كلّها رمضان، فلنجعل من أيامنا وليالينا كلّها رمضان
من معاني الصِّيام وحكمه ودروسه خلق الصَّبر، هذا القيمة الكبرى لا تنحصر بسنة أو شهر أو وقت معيّن، فهي شاملة لتفاصيل حياة الإنسان ودقائقها، ولا غرو أن جعل الله سبحانه أجر الصَّابرين بقوله: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. (الزمر:10).
صلاة اللَّيل ..
كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم يقول لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ((يا عبد الله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل)) . (متفق عليه).
ولا تتوقف الاستمرارية بعد رمضان على الذي ذكرنا فحسب، وإنما تشمل كل الأعمال الصَّالحات والعبادات التي قمنا بها في هذا الشهر الكريم، حتى نستقبله في العام القادم بكل همّة وجدّ ونشاط، وهو السرّ في تمني سلفنا الصَّالح أن لو كانت السنة كلّها رمضان، فلنجعل من أيامنا وليالينا كلّها رمضان، والله الموفق لما فيه الخير والنفع والبركة.