عـرفت الهـوى مذ عرفت هـواك وأغـلـقـت قلـبـي عـمـن سـواك
وكــنت أناجيـــك يـــا من تــرى خـفـايـا الـقـلـوب ولسـنـا نـراك
ما أعظمها من أبيات إن علمنا أنها لا تتحدث عن حب بشري بل تتحدث عن حب رب البشر وخالقهم... حب نبع من معرفة قلب بالله فعلم أنه لا أهل للحب سوى الله فأحبه ولزم طاعته.....
صاحبة هذه الأبيات هي رابعة العدوية فهي إذا صاحبة هذا القلب المحب...
فمن تكون؟؟
هي رابعة بنت إسماعيل العدوية، أم الخير، مولاة آل عتيك، اختلفت السير في بداية حياتها فمنهم من قال أنها كانت فقيرة ومنهم من قال أنها كانت من أهل الغناء والترف ثم اهتدت...لن ننظر إلى هذا الخلاف لأنه لن يحقق لنا الفائدة التي نرجوها من قراءة سير الصالحين ولكننا سنتناول ونعيش حياتها التي عرفت بها الله فكانت خير قدوة في محبته وخير عابدة زاهده..فمن يقرأ سيرتها يجد أثر حبها لله واضحا جلياً.. صحيح أنه لم يجر على يديها كرامات وغيرها ولكن نقل عنها من الحكم والآثار الكثير..فلقد بلغت من التواضع والزهد درجة لا يبلغها إلا الصالحين، وأصبحت نموذجًا يحتذى به في التطلع إلى ما عند الله من الكرامة والنعيم في جنة الخلد المقيم، وأصبحت تبعث في القلوب الهمة العالية والنشاط..فلم يصبها الغرور، بل تجملت بالتواضع الشديد، وكانت في عين نفسها أقل العباد. فمن تواضعها أن جاءها رجل يومًا يطلب منها الدعاء فقالت:" من أنا يرحمك الله؟ أطع ربك وادعه فإنه يجيب دعوة المضطر ".
فكانت دنياها وما فيها أهون عليها من جناح بعوضة؛ فحينما عرض عليها الزواج من صاحب غنى وجاه واسع يتفاخر به بنات جنسها كتبت له:" أما بعد، فإن الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن، وإن الرغبة فيها تورث الهم والحزن .. فما يسرني أن الله خولني أضعاف ما خولك فيشغلني بك عنه طرفة عين والسلام ".
فالمال عندها ليس مدعاة للفرح، بل يستوي عندها والتراب، وهي بزهدها ترد عباد الدنيا إلى صوابهم حتى يكون مقياس الفلاح والنجاح: هو الإيمان.
ونفهم من هذا ألا تكون الرغبة في الزواج ناشئة عن الشهوة وحب المال والزينة ولكن أن يكون الزواج عوناً على طاعة الله. إن كنت تسعى لتربية جيل مختلف ،جيل يرضي الله تعالى ويقوم بهذه الأمة فاغرس في قلبه محبة الله؛ لأنها هي الدافع الحقيقي والمحرك للعمل ولطاعة الله ونيل رضاه
ومن أقوالها حينما كان يغلبها النوم:" يا نفس كم تنامين؟ وإلى كم تقومين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور".
ومن أقوالها حين يجن الليل ويرخي ستوره:" إلهي هدأت الأصوات وسكنت الحركات، وخلا كل حبيب بحبيبه، وقد خلوت بك أيها المحبوب، فاجعل خلوتي منك في هذه الليلة عتقي من النار ".
ومن كلامها:" محب الله لا يسكن أنينه وحنينه حتى يسكن مع محبوبه ".
ومن وصاياها:" اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم ".
فكان لها الكثير من الحكم البليغة، حتى قال ابن الجوزي: كانت رابعة فطنة، ومن كلامها الدال على قوة فهمها قولها:" أستغفر الله من قلة صدقي في قولي أستغفر الله ".
ومن زهدها أنها ردت على من نظر إلى ثوبها الرث، وأشار عليها بمن يعينها على تحسين حالتها قائلة:" ألست على الإسلام، فهو العز الذي لا ذل معه، والغنى الذي لا فقر معه، والأنس الذي لا وحشة معه، والله إني لأستحي أن أسأل الدنيا من يملكها؟ فكيف أسألها من لا يملكها "؟
ألا تجد من كلماتها ووصاياها وأشعارها أن لله تعالى أنعم عليها ببصيرة المؤمن فامتلكت موهبة الشعر التي تأججت بعاطفة قوية ملكت حياتها فخرجت الكلمات منسابة من شفتيها تعبر عن ما يختلج بها من وجد وحب لله فقدمت ذلك الشعر كرسالة لمن حولها ليحبوا ذلك المحبوب العظيم... ومن أشعارها في أحد قصائدها التي تصف حب الخالق تقول:
أحبـــك حـبـيــن حـب الهـــــوى وحــبــــا لأنـــك أهـــل لـــذاك
فــأما الــذي هــو حب الهــــوى فشـغلـي بـذكـرك عـمـن سـواك
وامـــا الـــذي أنــت أهــل لــــهف كـشـفـك للـحـجـب حـتـى أراك
فـلا الحـمد فـي ذا ولا ذاك لـــي ولـكـن لك الـحـمـد فـي ذا وذاك
وأشتـاق شوقيـن.. شوق النـوى وشـوق لقرب الخلـي من حمـاك
فأمـا الــذي هــو شــوق النــوى فمسـرى الدمــوع لطــول نـواك
أمــا اشتيـــاق لقـــرب الحمى فنــار حيـــاة خبت فــي ضيــاك
ولست على الشجو أشكو الهوى رضيت بما شئت لـي فـي هداكـا
ولم تكتفي بهذه الوصايا والكلمات والأبيات فحسب فقد كان لها النصيب الكبير في قيام الليل وكثرة البكاء خشية من الله وحباً له سبحانه. فيقول سجف بن منظور دخلت على رابعة وهي ساجدة فلما أحست بمكاني رفعت رأسها فإذا موضع سجودها كهيئة الماء المستنقع من دموعها فسلمت فأقبلت علي فقالت يا بني ألك حاجة؟ فقلت جئت لأسلم عليك قال: فبكت وقالت: سترك الله اللهم سترك ودعت بدعوات ثم قامت إلى الصلاة وانصرفت.
وعن عبدالله بن عيسى قال : دخلت على رابعة العدوية فرأيت على وجهها النور وكانت كثيرة البكاء فقرأ رجل عندها آية من القرآن فيها ذكر النار فصاحت ثم سقطت.
هكذا كانت رابعة العدوية أنسها بالله، و شوقها لله، و حبها لله، و حياتها كلها لله تعالى..
وفاتها ..
فارقت رابعة العدوية الحياة بعد أن بلغت الثمانين من عمرها، وقد ذاقت ما ذاقت من البلاء، لكنها تمتعت بالأنس بالله والفرح بطاعته، وكانت ترى أنه لا راحة للمؤمن إلا بعد الموت على الإيمان الذي لم يفارقها ذكره، وقد كفنت في جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون، وقد رأتها خادمتها في المنام وعليها حلة من إستبرق وخمار من سندس أخضر لم ير أجمل منه.
وكانت وفاتها سنة ثمانين ومائة وقيل خمس وثمانين ومائة ودفنت بالقدس وقبرها على رأس جبل الطور وقد كرمها الله بهذه الذكرى الطيبة التي تحيي في القلوب الفاترة الغافلة الهمة واليقظة..
ختاما...رابعة العدوية... حبها لله يثير فينا سؤالا، وهو هل تمكن حب الله في قلوبنا، فكان حقا أحب إلينا من أنفسنا ومن جميع الخلق؟؟!!!
أم أنه حب باللسان فقط دون القلب والجوارح؟؟!!!
فالمحب الحقيقي لله تعالى يحيى حياته بتفاصيلها ،بسكناتها ومشاغلها كلها لله تعالى فتكون حياته مختلفة...
فان كنت تسعى لتربية جيل مختلف ،جيل يرضي الله تعالى ويقوم بهذه الأمة فاغرس في قلبه محبة الله؛ لأنها هي الدافع الحقيقي والمحرك للعمل ولطاعة الله ونيل رضاه ..كما كانت رابعة العدوية تقية نقية زاهدة بالدنيا ساعية لرضى المولى والحبيب فقط...
المراجع:
1-رقائق الأخوات. أ.سماح عبد الغفار
2-سير أعلام النبلاء، الذهبي
3- صفة الصفوة ابن الجوزي