يعدُّ استغلال الوقت بما هو نافع عاملاً مهماً من عوامل النجاح والإبداع، سواءٌ أكان في الجانب العبادي، أو العلمي أو العملي وغير ذلك. فبحسن استثماره أبدع المبدعون، وبرع العلماء والمفكرون، ونجحت الأحزاب ونهضت الدول، أما سوء استخدامه فلا يورث في نفس صاحبها إلا الخمول والكسل، والضجر والملل، ثم بعد ذلك يفارق الدنيا دون أن يترك أثراً له أو عملاً.
وتكمن أهمية الوقت، بأنه سريع الانقضاء والمرور، ولك أن تتخيَّل أخي القارئ كم مضى من عمرك، وكم تحتاج ذاكرتك لتخيّل أبرز ما حدث فيه؛ فالوقت يسير بسرعة بالغة، سواء أكان في زمن سرور وفرح، أو كآبة وحزن، كما أن ما مضى منه لا يعود، فكل يوم أو ساعة أو لحظة لا يمكن استعادتها بأي حال.
قال الشاعر : وما المرءُ إلا راكبٌ ظَهْرَ عمره ... على سفرٍ يُفنيه باليوم والشهر
يبيت ويضحي كل يوم وليلةٍ ... بعيداً عن الدنيا قريباً إلى القبر
ولما يتميز به الوقت من سرعة انقضاء وعدم عودة لأجزائه، فإنَّ المسلم عموماً والداعية خصوصاً يجب عليه أن يحسن استغلاله، بما يفيده في دينه ودنياه، فلا يتركه يذهب سدى دون فائدة.
اهتمام الإسلام بالوقت ..
وليس الاهتمام بالوقت أمر بدعي أو مستحدث، بل هو من صميم ديننا، ومن يستقرئ النصوص الشرعية الواردة في الكتاب والسنة، يجد أنّ الإسلام اهتم بالوقت وحسن استغلاله اهتماماً بالغاً.
"
أقسم الله تعالى بالزمن في مختلف أجزائه، إشعاراً بقيمته وأهميته، وليلفت أنظار الناس إليه، وينبههم على جليل منفعته وآثاره.
"
ومن الأمثلة على ذلك: أنَّ الإسلام حدّد لكل عبادة وقتاً يتم أداؤها فيه، كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها، في حين ترك بعض العبادات الأخرى دون توقيت، فهي إما مطلقة، وإما مرهونة بحدوث فعل معين. وتوقيت العبادات يُفهم منه سعي الإسلام إلى ضبط الإنسان، واهتمامه بوقته بحيث يقوم بالعبادة بوقتها.
ولم يقتصر الإسلام على تحديد أوقات العبادات، بل حثّ على المسارعة في أدائها في أول وقتها، وعدم تأخيرها والتهاون فيها. فعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: ((سألت الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم :" أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها.)) (متفق عليه).
فبالإضافة إلى أنَّ مواقيت الصلاة تعويد للشخص على الالتزام بالوقت، حيث خصّص الشرع لكل صلاة وقتاً خاصاً، بحيث تكون عادة يتبعها في شؤون حياته كلّها. إلا أننا نجد أنَّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- حثَّ على المسارعة في أدائها، وفي هذا إشارة إلى المسارعة والمبادرة في عدم تضييع الواجبات، واستغلال الوقت لنيل الثواب والأجر من الله تعالى.
ومن الأمور التي تؤكد على أنّ الوقت بجميع أجزائه مهمٌ في حياة الإنسان، أن الله أقسم بالزَّمن في مختلف أجزائه؛ إشعاراً بقيمته وأهميته، فأقسم بالليل، والنهار، والفجر، والصبح، والشفق، والضحى، والعصر. ومن المعروف لدى المفسرين: أنّ الله إذا أقسم بشيء من خلقه، فذلك ليلفت أنظارهم إليه، وينبههم على جليل منفعته وآثاره.
ولهذا كان الفراغ والخلوّ من المشاغل نعمة أنعمها الله على الإنسان، ليعبد الله فيها، ويحقق فيها ما يفيده في الدين والدنيا، لذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)). (رواه البخاري). ويقصد بالفراغ الخلو من المشاغل والمعوقات الدنيوية المانعة للمرء من حيث الاشتغال بالأمور الأخروية. لذا فالوقت نعمة عظيمة، لا يستفيد منها إلا الموفق الفذّ، ولذلك يستفيد منه القلة، والكثير مفرط مغبون فيه.
ومن ناحية أخرى، وتأكيداً على أهمية الوقت، فإنه لا يمرّ دون محاسبة، بل الإنسان معرَّضٌ للسؤال عن كل جزء من أجزاء حياته. ماذا فعل فيه ؟ وكيف قضى وقته ؟ وهل قضاه في الخير أم غير ذلك ؟ . قال صلى الله عليه وسلم : ((لن تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به)) (رواه البزار والطبراني بإسناد صحيح).
قال الحسن البصري: "أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم".
وبناءً على النصوص السَّابقة، كان السلف حريصين على عدم تضييع الوقت فيما لا فائدة فيه، لذا كانوا أتقى الناس، وأكثرهم عبادة وقرباً إلى الله. وفي الوقت نفسه، حققوا العزة للأمَّة، وساهموا في نهضتها في شتى الميادين. فكانت أوقاتهم أدوات نهضوية لأمتهم، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من العزة والكرامة.
ولهذا لا غرابة أنَّ نجد علماءنا قد نصوا في كتبهم على ضرورة الاهتمام بالوقت، وحسن استغلاله بما هو مفيد، وبما هو أهم.
قال الحسن البصري: "يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك". وقال أيضاً: "أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم".
وقال ابن الجوزي: "ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قُربة، ويقدّم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل".
وقال أيضاً في رسالته التي نصح بها ولده: "واعلم يا بني، أنّ الأيام تُبسط ساعات، والساعات تبسط أنفاساً، وكل نفس خزانة، فاحذر أن يذهب نفس بغير شيء فترى في القيامة خزانة فارغة فتنتدم. وانظر كل ساعة من ساعاتك بماذا تذهب، فلا تودعها إلا إلى أشرف ما يمكن، ولا تهمل نفسك، وعوّدها أشرف ما يكون من العمل وأحسنه، وابعث إلى صندوق القبر ما يسرك يوم الوصول إليه"
الاستغلال الصَّحيح ..
يقول الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله: "يقال الوقت من ذهب، وهذا صحيح من حيث القيم المادية للذين لا يقيسون الوجود إلاَّ بها. ولكن الوقت هو الحياة للذين ينظرون إلى أبعد من ذلك. وهل حياتك أيها الإنسان في هذا الوجود شيء غير الوقت الذي يمضي بين الوفاة والميلاد؟ وقد يذهب الذهب وينفد ولكنك تستطيع أن يكون معك منه أضعاف ما فقدت، ولكن الوقت الذاهب والزمن الفائت، لا تستطيع له إعادة أو إرجاعاً!! فالوقت إذن أغلى من الذهب، وأغلى من الماس، وأغلى من كل جوهر وعرض، لأنه هو الحياة".
إذن نظراً لأهمية الوقت، ولما له من أثر في حياة الإنسان خصوصاً والبشرية عموماً، فإنه من المؤسف أن نجد عدم الاهتمام بالوقت وتضييعه ظاهرة لدى بعض الدعاة والمصلحين.
إنَّ من يحمل مشروعاً عظيماً في نفسه، لا يُقبل منه أن يهدر وقته فيما لا فائدة فيه. فالأصل أن يحافظ الداعية على وقته كما يحافظ على ماله، بل أكثر منه، وأن يحرص على الاستفادة من وقته كله، فيما ينفعه في دينه ودنياه، وما يعود على أمته بالخير والسعادة.
قال الشيخ القرضاوي: والحق أنَّ السفه في إنفاق الأوقات أشد خطراً من السفه في إنفاق الأموال، وإنّ هؤلاء المبذرين المبدّدين لأوقاتهم، لأحق بالحجر عليهم من المبذرين لأموالهم؛ لأنَّ المال إذا ضاع قد يعوَّض، والوقت إذا ضاع لا عوض له.
قال الشاعر : ولا أؤخر شغل اليوم عن كسل ... إلى غد إنَّ يوم العاجزين غدا
"
ينبغي على الداعية أن ينظم وقته بين الواجبات والأعمال المختلفة، وأن يكون اهتمامه بالوقت شاملاً كل جزئيات حياته، ولا يرهق نفسه عبر تولي الكثير من الواجبات التي تجعله يُفرّط في أدائها لقلة الوقت، فليست العبرة بكثرة الواجبات، وإنما بإنجازها وإنجاحها.
"
لذا ينبغي على الداعية أن ينظم وقته بين الواجبات والأعمال المختلفة، دينية كانت أم دنيوية؛ حتى لا يطغى بعضها على بعض، ولا يطغى غير المهم على الأهم. وأحوج الناس إلى تقسيم الوقت وتنظيمه، المشغولون من الناس من أصحاب المسؤوليات؛ لتزاحم الأعباء عليهم، حتى إنَّهم ليشعروا أنَّ الواجبات أكثر من الأوقات. وهذا يقتضي وضع خطة ولو بسيطة لتقسيم الوقت، بحيث يحقق فيه واجب العبادة والتقرب إلى الله، وواجب الدعوة وما تتطلبه من تكاليف، وواجب الأسرة وواجب المعرفة ..إلخ من الواجبات المختلفة، مع فهم للأولويات، وعدم تقديم للمهم على ما هو أكثر من أهمية.
ولهذا نجد مع الأسف، أنَّ البعض يتحمَّل الكثير من الواجبات، التي قد تحرفه عن أهمها، وهي العبادة والتقرّب إلى الله، فلا يطالع المصحف إلاَّ نادراً، ولا يصلي من النوافل إلاَّ قليلاً. وفي هذا خطأ في الفهم وترتيب الأولويات. وفي المقابل، نجد البعض يقضي وقته في طلب العلم والمطالعة، دون أن يقدّم أيَّ واجب لأمته، أو دور في إصلاحها ونهضتها.
ومن ناحية أخرى، لابد أن يكون اهتمام بالداعية بالوقت شاملاً كل جزئيات حياته، في لقاءاته، وأعماله، ومواعيده، وغيرها.
بالإضافة إلى أنَّ الداعية لا يجوز له أن يرهق نفسه بطريقة تضعفه عن الاستمرار فيما كُلف به من مهام. فبعض الدعاة، وبدافع حرقتهم على دعوتهم، يحملون الكثير من الواجبات ما يفوق طاقتهم، ولربما فرطوا في جميع ما كُلّفوا به، بدل توزيعه على الآخرين. فليس العبرة بكثرة الواجبات، وإنما بإنجاحها وتحقيق الغاية منها في وقتها المناسب. والأصل في الداعية أن يتذكر ذاك الحديث المروي عن النبي صلَّى الله عليه وسلّم : (خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) (رواه الشيخان).
مراجع إضافية:
قيمة الزمن عند العلماء – عبد الفتاح أبو غدة.
الوقت في حياة المسلم – يوسف القرضاوي