يشكو كثير من النّاس في عصرنا من هموم عديدة على رأسها همّ تحصيل الرِّزق، وفي جولة عابرة تقودنا إلى شوارع عاصمة عربية أو إسلامية نجد أنَّ أغلب النّاس منطلقين في تحصيل أسباب الرِّزق، ولو قدّر لنا أن نسأل أحدهم : هل أنت راض ؟ لأجاب بملء فيه : لا .
إنَّ أسباب تحصيل الرّزق على الرَّغم من كثرتها وتنوّعها في حياتنا إلاَّ أنَّ الأنظمة الجاثمة والمسيطرة على المال العام ومقدرات الشعوب هي السبب في جعل أسباب الرّزق محصورة في فئة من النّاس دون غيرها من خلال فساد السياسات الاقتصادية وتفشي ظواهر الاختلاس والسرقة، وقد حرّم المولى سبحانه أن يكون المال متداولاً بين فئات من المجتمع دون غيرها { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}. (الحشر:7).
وعلى خطورة هذه المسألة، فإنَّ موضوع بحثها ليس مرادنا خلال هذه الأسطر، وإنَّما الخطر الأكبر الذي يواجه شريحة كبيرة من مجتمعاتنا يكمن في غياب البعد الإيماني والتربوي في مسألة تحصيل الرّزق وأسبابه، وأنَّ كل ذلك مقرون بمدى التوكل والرّضا والتسليم وتفويض الأمر لله سبحانه من قبل وبعد.
إنَّ الإيمان العميق باسمي الله سبحانه الباسط والقابض كفيل ببعث الطمأنينة والسعادة في الحياةإنَّ الإيمان العميق باسمَي الله سبحانه الباسط والقابض كفيل ببعث الطمأنينة والسعادة في الحياة، إذ من حكمة الله سبحانه في خلقه أن جعلهم متفاوتين في الخلق والرِّزق، قال الله عزّ وجل: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}. (الإسراء:30). وفضّل بعضهم على بعض، فمنهم الأغنياء ومنهم الفقراء؛ ليقوم الكل بدوره في إعمار هذه الحياة بالإيمان والتنمية والتكافل. قال سبحانه : {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} . (الرّعد:26).
قال أهل التفسير : (يخبر تعالى عن سنة من سننه في خلقه وهي أنه يبسط الرزق أي يوسعه على من يشاء امتحانا هل يشكر أم يكفر ويضِّيق ويقتِّر على من يشاء ابتلاء هل يصبر أو يجزع، وقد يبسط الرِّزق لبعض إذ لا يصلحهم إلا ذاك، وقد يضيق على بعض إذ لا يصلحهم إلا ذاك، فلن يكون الغنى دالاً على رضى الله، ولا الفقر دالاً على سخطه تعالى على عباده).
وقال الإمام ابن عاشور في تفسيره لقوله تعالى :{ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} : (وهو التمحض للفرح. والفرح المنهيّ عنه هو المفرط منه، أي الذي تمحض للتعلق بمتاع الدنيا ولذات النفس به، لأنَّ الانكباب على ذلك يميت من النفس الاهتمام بالأعمال الصالحة والمنافسة لاكتسابها فينحدر به التوغل في الإقبال على اللذات إلى حضيض الإعراض عن الكمال النفساني والاهتمام بالآداب الدينية، فحذف المتعلق بالفعل لدلالة المقام على أن المعنى لا تفرح بلذات الدنيا معرضاً عن الدين والعمل للآخرة كما أفصح عنه قوله {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة} .
فمن أسماء الله عزَّ وجل القابض البَاسط، وهو صفة له، قال الله سبحانه: {بل يداه مبسوطتان} ، وقال عزَّ وجل: {الله يقبض ويبسط}. قال الإمام الحليمي في معنى الباسط : (إنَّه الناشر فضله على عباده يرزق ويوسع، ويجود ويفضل ويمكن ويخول ويعطي أكثر مما يحتاج إليه) وقال في معنى القابض: (يطوي بره ومعروفه عمن يريد ويضيق ويقتر أو يحرم فيفقر).
فغياب هذه المعاني الإيمانية عن قلوب الناس وعقولهم سبب كافٍ لتعكير صفو حياتهم، فالله عزّ وجل قرن بسط الرزق بالإيمان فقال : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . (لأعراف:96). وفي صحيح البخاري عن أَبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : ((منْ سَرَّهُ أَن يُبْسَطَ له فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ ، فَلْيَصِل رَحِمَهُ)).
وفي دعائنا الله سبحانه باسمَيه القابض والباسط إيمان وسعادة وطمأنينة تأسياً بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّموفي مسند الإمام أحمد من حديث عَبْدِ اللَّهِ الزُّرَقي رضي الله عنه، قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: ((اللَّهُمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ وَلاَ هَادِىَ لِمَا أَضْلَلْتَ وَلاَ مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ وَلاَ مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ وأعوذ بك مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ منا)).
وفي دبر كل صلاة تجديد لهذا الإيمان بأنَّ الرازق والقابض والباسط هو الله سبحانه.. (( لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد)). (صحيح البخاري). ونردّد استجابة لقول ربنا قل .. {إنَّ ربي يبسط الرّزق لما يشاء ويقدر}.