من نعم الله سبحانه على عباده أن جعل لهم ألسناً يتخاطبون ويعبّرون بها عمّا يريدون ويجول في خواطرهم ومشاعرهم من أفكار وأحاسيس، لكنَّ هذه النعمة لها حدود ينبغي الوقوف عندها وخطوط لا يجوز تعدّيها، وقد علّم الرّسول صلّى الله عليه وسلّم هذا المعنى للصحابي الجليل معاذ بن جبل، ففي مسند الإمام أحمد عن معاذ أنَّ النبيّ عليه الصّلاة والسّلام قال له : ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله، فقلت له: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه فقال : كف عليك هذا فقلت : يا رسول الله، وأنا لمؤاخذون بما نتكلم به! فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم في النار أو قال على مناخرهم إلاَّ حصائد ألسنتهم)).
ففي هذا الحديث الشريف بيان أنَّ أصل الخير كله في كف اللسان لقوله صلَّى الله عليه وسلّم : ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله)). وهو مبدأ قرآني وتعليم رباني، فالمولى تبارك وتعالى نفى الخير عن كثيرٍ ممَّا يتناجى به الناسُ بينهم ، فقال: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاس} . (النساء:114).
من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه من قول و فعل والاقتصار على ما يعنيه من الأقوال والأفعال
ومن جماع الآداب والأخلاق قوله صلّى الله عليه وسلّم : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)). فالإيمان بالله واليوم الآخر يحض على حفظ اللسان، وفي حفظ اللسان الإشارة لحفظ جميع الجوارح الأُخر ؛ لأن حفظ اللسان أشد ذلك، وحتى لا يكون اللسان قائداً للأعضاء كلّها إلى المهالك؛ ففي الاستذكار لابن عبد البر عن أبي بكر الصديق : ((ليس شيءٌ من الجسد إلا وهو يشكو اللسان إلى الله تعالى)).
ومن حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه من قول و فعل والاقتصار على ما يعنيه من الأقوال والأفعال، ومن هنا تكمن الحكمة في التوازن وضبط اللسان بين القول والصَّمت، قال الإمام ابن رجب في شرح حديث : ((من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه)) : (ومعنى يعنيه : أنْ تتعلق عنايتُه به ، ويكونُ من مقصده ومطلوبه ، والعنايةُ : شدَّةُ الاهتمام بالشيء، يقال: عناه يعنيه : إذا اهتمَّ به وطلبه، وليس المُراد أنَّه يترك ما لا عناية له به ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس، بل بحكم الشرع والإسلام، ولهذا جعله من حسن الإسلام، فإذا حَسُنَ إسلامُ المرء، ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال، فإنَّ الإسلامَ يقتضي فعل الواجبات).
وقال عمر بن عبد العزيز - رَحِمه الله - : (من عدَّ كلامه من عمله، قلَّ كلامُه إلا فيما يعنيه). قال ابن رجب معلّقاً : (فإنَّ كثيراً من الناس لا يعدُّ كلامَه من عمله، فيُجازف فيه، ولا يتحرَّى).
قال بعض العارفين: ((إذا تكلمتَ فاذْكُر سَمعَ اللهِ لك، وإذا سكتَّ فاذكر نظره إليك)).
فالتوسع في الكلام المباح قد يؤدّي إلى الاستئناس بكلام مكروه أو كلام محرَّم كما هو مجرَّب في الوقع ، فإنَّ الذين توسعوا في الكلام، وأكثروا منه في غير الثلاثة المذكورة في آية سورة النساء آنفة الذكر جرَّهم ذلك إلى أن يدخلوا في أمور محرَّمة من غيبة أو نميمة أو بهتان أو مداهنة، أو ما أشبه ذلك ممَّا لا يحل.
وإذا حرص الإنسان على هذا المبدأ في التوازن بين الصمت والقول استطاع أن يحقّق في نفسه صفات المسلم الكامل لقوله الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: ((المسلمُ مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده ))، ليضمن لنفسه ما وعده الرّسول به في قوله: ((من يضمن لي ما بين لَحْيَيه وما بين رجليه أضمن له الجنة)).
فالحكمة بين القول والصمت تكمن في خلق المراقبة لله سبحانه، كما قال بعض العارفين: ((إذا تكلمتَ فاذْكُر سَمعَ اللهِ لك، وإذا سكتَّ فاذكر نظره إليك)).
مراجع للاستزادة :
- جامع العلوم والحكم لابن رجب
- شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد