سمَّى المولى سبحانه سورة من سور كتابه الكريم باسمهم، وبيّن صفاتهم وحذر منهم في ثلاث عشرة آية منه؛ إنَّهم المنافقون الذين لا يخلو مجتمع أو صف أو مؤسسة منهم، ويرجع تركيز القرآن الكريم على من هذه صفاتهم كما يقول الشيخ محمد راتب النابلسي: ((لأنَّ المؤمن واضح، والكافر واضح، المؤمن كان جريئاً آمن بهذا الدين العظيم، وقبض الثمن، ضَحَّى قليلاً وأخذ كثيراً، والكافر كان جريئاً ردَّ الحق ودفع الثمن، المؤمن مُنسجم مع نفسه، والكافر منسجم مع نفسه، المؤمن منسجم مع الحقيقة ومع نفسه، الكافر غير منسجم مع الحقيقة لكنه مُنسجم مع نفسه، فالمؤمن واضح والكافر واضح. لكنَّ الإنسان الخطير هو المنافق، لأنه غامض، له ظاهر، وله باطن، له موقف معلن، وله موقف باطن، له شيءٌ يفعله في جلوته، وله شيءٌ يفعله في خلوته، علانيته ليست كسريرته، فالمنافق خطر).
لماذا سمِّي المنافق منافقاً ؟
قال ابنُ الأنباريِّ: (في تسميةِ المنافقِ منافقًا ثلاثةُ أقوال:
أحدها: أنَّه سمِّي بذلك؛ لأنَّه يستُرُ كفره؛ فأشبه الداخلَ في النَّفَق، وهو السَّرَبُ.
وثانيها: أنه شُبِّهَ باليربوعِ الذي له جُحْرٌ يقال له: القَاصِعاء، وآخَرُ يقال له: النَّافِقاء، فإذا أُخِذَ عليه مِنْ أحدهما خرَجَ من الآخر؛ وكذلك المنافق: يخرُجُ من الإيمانِ مِنْ غير الوجهِ الذي يدخُلُ فيه.
وثالثها: أنَّه شُبِّه باليربوعِ مِنْ جهة أنَّ اليربوع يَخْرِقُ الأرض، حتى إذا قاربَ ظاهرَهَا، أَرَقَّ الترابَ، فإذا رَابه رَيْب، دفَعَ الترابَ برأسِهِ فخرَجَ، فظاهرُ جُحْرِهِ تراب، وباطنُهُ حَفْر، وكذلك المنافقُ: ظاهرُهُ الإيمان، وباطنه الكفر).
"
الإنسان الخطير هو
المنافق، لأنه غامض، له ظاهر، وله باطن، له موقف معلن، وله موقف باطن، له شيءٌ يفعله في جلوته، وله شيءٌ يفعله في خلوته، علانيته ليست كسريرته، فالمنافق خطر.
"
صفات المنافقين ..
ولخطورة المنافقين على المجتمع والصف الإسلامي، أوضح لنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم صفاتِهم، ففي الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان))، فهي صفات ثلاث: الكذب في الحديث، والخلف في المواعيد، وخيانة الأمانة، وفي بعض روايات هذا الحديث عند الضياء المقدسي في المختارة والبيهقي في السنن الصغرى : ((فهو منافق وإن صام وصلَّى وزعم أنه مسلم)).
وكلّها صفات تجتمع في شخصية غير متوازنة، ظاهرها غير باطنها، ومن هنا تكمن خطورة وجودها في الصف الإسلامي، وتلقي بظلالها القاتمة على الفرد والمجتمع، وتضع عبئاً ثقيلاً على المربين لعلاج هذه الظاهرة الخطيرة، ووضع الأسس التربوية الكفيلة بعلاجها الفاعل وإيجاد المحاضن التي تنفي خبثها وخطرها، ولا يقف الأمر عند المربين فحسب، فالأمر يتعلق بالفرد نفسه، من خلال سعيه الحثيث في تجنّب وقوعه أو تلبسه بصفة من صفات هذه الشخصية، حتى لا يكون مساهماً في شرخ الصف الرّباني أو تعكير أجوائه الطاهرة.
المنافق الخالص !
إنَّ خصلة واحدة كفيلة بوصف صاحبها بالمنافق، لكنَّ المنافق الخالص هو من توفرت فيه خصال النفاق كلّها، ولا يُنزع منه وصف المنافق بخصلة منها حتّى يدعها ويهجرها هجراً مطلقاً، ففي الحديث الذي رواه الشيخان أيضاً عن عبد الله بن عمرو أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلّم قال: ((أربعٌ من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا اؤتمن خان وإذا حدَّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر)).
إنَّها أربع خصال تجعل من الإنسان منافقاً خالصاً، وكل واحدة منهن تكفي في وقوع صاحبها في النفاق، خيانة الأمانة، والكذب في الحديث، ونقض العهود والغدر، والفجور في الخصومة، وكل هذه الخصال بعيدة كل البعد عن خلق المؤمنين والعاملين في حقل التربية والدّعوة، فإذا حضرت هذه الصفات في أفراد الصف الإسلامي، فإنَّ هناك خللاً وتقصيراً ينبغي البحث عنه وتداركه وإصلاحه حتى لا يصبح وباءً وداءً خطيراً مستعصياً عن الحلول.
والمقصود بالنفاق في الحديثين السَّابقين – وهو موضوع بحثنا - هو نفاق العمل وهو ما اصطلح عليه العلماء بالنفاق الأصغر، وليس المقصود بهما نفاق العقيدة وهو النفاق الأكبر والعياذ بالله، لأنَّ بينها فرقاً كبيراً، فالأول أن يظهر الإنسان علانية صالحة ويبطن ما يخالف ذلك وهو من أكبر الذنوب والمعاصي .
وأمَّا النفاق الأكبر فهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا النفاق الذي كان على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ونزل القرآن بذم أهله، وأخبر أنهم في الدرك الأسفل من النار.
"
ومن هنا تكمن خطورة وجودها في الصف الإسلامي، وتلقي بظلالها القاتمة على الفرد والمجتمع، وتضع عبئاً ثقيلاً على المربين لعلاج هذه الظاهرة الخطيرة، ووضع الأسس التربوية الكفيلة بعلاجها الفاعل وإيجاد المحاضن التي تنفي خبثها وخطرها
"
أصول النفاق العملي:
الخصال المذكورة في الحديثين هي أصول النفاق العملي وأساسه وتندرج تحتها خصال ذميمة كثيرة، نوجز شرحها من كلام ابن رجب الحنبلي في (جامع العلوم والحكم):
الأولى: الكذب، وهو أن يحدث بحديث لم يصدق به وهو كاذب له، قال الحسن:(كان يقال النفاق اختلاف السر والعلانية والقول والعمل والمدخل والمخرج وكان يقال أس النفاق الذي بني عليه الكذب).
الثانية: إذا وعد أخلف وهو على نوعين؛ أحدهما: أن يعد ومن نيته أن لا يوفي بوعده وهذا أشر الخلق ولو قال: أفعل كذا إن شاء الله تعالى ومن نيته أن لا يفعل كان كذباً وخلفاً، قاله الأوزاعي. الثاني: أن يعد ومن نيته أن يفي ثم يبدو له فيخلف من غير عذر له في الخلف.
الثالثة: إذا خاصم فجر، ويعني بالفجور أن يخرج عن الحق عمداً حتى يصير الحق باطلاً والباطل حقاً وهذا ممَّا يدعو إليه الكذب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إياكم والكذب فإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم : ((إنَّ أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)).
الرّابعة: إذا عاهد غدر ولم يف بالعهد، وقد أمر الله بالوفاء بالعهد فقال :{وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} الإسراء وقال: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا}. النحل وقال: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم}.
الخامسة: الخيانة في الأمانة فإذا اؤتمن الرجل أمانة، فالواجب عليه أن يردها كما قال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}.
"
حرص الصَّحابة رضي الله عنهم على تجنّب صفات النفاق وخصاله، ما ذكره العلماء من سؤال الفاروق عمر رضي الله عنه حذيفة بن اليمان أمين سرّ النبي عليه الصَّلاة والسٍّلام رضي الله عنه قائلاً: ((هل تعلَمُ فيَّ شيئًا من النفاق؟)).
"
مفهوم العدد في الحديث:
إنَّ العدد إذا ذكر في الأحاديث النبوية له خاصية ودلالة، فإذا ورد بصيغة الجزم فليس لنا أن نزيد عليه، ومثال ذلك الطواف بالبيت سبعاً، والسعي بين الصفا والمروة سبعاً، والصلوات المكتوبة خمساً . أمَّا إذا ورد العدد بغير صيغة الجزم أو وردت نصوص أخرى تخالفه ..((ثلاث من كن فيه))، ((أربع من كن فيه))، فإنَّ العدد هنا غير مطلوب بذاته، والمقصود به ذكر الجزء من الكل، والاقتصار على بعض الخصال من صفات المنافقين والتحذير منها.
بين عمر وحذيفة !
ذكر أكثر أهل العلم أنَّ تلك الصفات المذكورة في الحديثين السَّابقين كانت علامةَ المنافقين في زمان النبي عليه الصلاة والسّلام، أمَّا أصحابه رضوان الله عليهم فقد كانوا مجتنبين لتلك الخصال بحيث لا تقع منهم، ولا تُعْرَفُ فيما بينهم، وبهذا قال ابنُ عبَّاس وابنُ عمر رضي الله عنهما، حيث سألاه عن هذا الحديث؟ فضحكَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلّم، وقال: ((ما لكم ولهنَّ، إنما خصَصْتُ بهنَّ المنافقين، أنتم مِنْ ذلك بُرَآء)).
ولحرص الصَّحابة رضي الله عنهم على تجنّب صفات النفاق وخصاله، ما ذكره العلماء من سؤال الفاروق عمر رضي الله عنه حذيفة بن اليمان أمين سرّ النبي عليه الصَّلاة والسٍّلام رضي الله عنه قائلاً: ((هل تعلَمُ فيَّ شيئًا من النفاق؟)). فهل نديم السؤال لأنفسنا: هل فيها شيءٌ من خصال النفاق ؟ لنسعى سعي المُجِّد والعمل لتخليصها من درن النفاق لتصفو النفس وتنطلق في صفاء ونقاء لأداء عملها في حقل الدعوة والتربية.
مراجع للاستزادة:
- المفهم فيما أشكل من تلخيص كتاب مسلم – أبو العبّاس القرطبي.
- جامع العلوم والحكم – ابن رجب الحنبلي.
- سبل السلام شرح عمدة الأحكام – الصنعاني.